موظف شركة "نكسن" الذي احرق نفسه أمام رئاسة الوزراء

لا تُجبر الرجال على "البكاء" الا الظروف القاهرة.. وقيل اكبر من القتل "قهر الرجال" .. لكن اذا وصل الأمر بالشخص ان يقدم على إحراق نفسه.. فما الدفاع الكبير الذي يقف ورأء ذلك ياترى ..؟ لنتابع.
مأساة إنسانية يعيشها عبد الحكيم القدسي، دفعته إلى إحراق نفسه أمام مبنى رئاسة مجلس الوزارء بصنعاء، الثلاثاء، في اطار اعتصامات موظفي شركة كنديان نكسن النفطية بعد تسريحهم من اعمالهم.
وكالة "خبر" للأنباء، بحثت عن الدوافع التي أجبرت موظف سابق في شركة نفطية لإشعال النار في جسده، فوجدتها نموذج لمأساة إنسانية يعيشها القدسي وكثير من اليمنيين في ظل الوضع الراهن والحكومة الحالية.
الوكالة زارت القدسي الذي يرقد على الفراش الأبيض في المستشفى الجمهوري بالعاصمة صنعاء، فوجدته مغطى بـ "العطب والشاش" المضمد لجروح الحروق المصنفة طبيا من الدرجة الأولى.. لماذا فعل القدسي بنفسه هذا، ووصل بحالته الصحية إلى الموت المحقق؟ ما لضروف والدوافع القهرية التي دفعته للقيام بهذه العملية "الانتحارية" بحق نفسه..؟ هذه التساؤلات وأخرى كثيرة كانت تدور برأس زميلنا الذي زار القدسي في قسم الحروق بالمتشفى .. لكنه لقي الجواب وكان شافيا من وجهة نظره فسرد لنا القصة على لسان موظف شركة نكسن النفطية المستغيث والعائد من وجه الموت عبد الحكيم القدسي.. الموجزة بالسطورة التالية:

من هو المشعل النار في نفسه الثلاثاء..؟

عبدالحكيم حمود قاسم الكدرة ، من مواليد 1964، مديرية قدس قضاء الحجرية محافظة تعز جنوب العاصمة صنعاء.. متزوج وله خمسة من الأبناء.
بدأ حياته المهنية بالالتحاق بشركة كنديان نكسن النفطية قبل اكثر من 15 عاما، بعد مكابدته ضروف الحياة الصعبة.. وعمل لدى الشركة "سائق" وهي المهنة التي يجيدها وتوفر له مدخول يكاد يكفي لتغطية احتياجات الحياة اليومية ، لكنه رضي بقسمته بالدنيا وحمدلله على ذلك.
يقول القدس بصوت "متهتك" وضعيف، وهو يرقد في احد اسرة قسم الحروق بمستشفى الجمهوري بصنعاء، "كنت راضي بما قسم الله لي ، لكنهم حرومني منها بعد ان اصيبت بالاعاقة وانا أعمل عندهم".. هذه العبارات قد تكون مبهمة للكثيرين وعادية ومألوفة لديهم.. لكنها تخفي ورائها مأساة انسانية لمواطن ليس بيده اختيار منطقة ومكان "عيشه وحياته".. في بلاد تغيب فيه الحقوق وتنتهك وتسلب من اصحاب العمل او النفوذ والقوة او المسؤولين في ظل وجود القانون وغياب منفذيه والمسؤولين عنه في اطاره.

المأساة .. الجريمة
اصيب القدسي أثناء عمله في شركة كنديان نكسن 2006، عندما اغلق بأب مصعد الشركة عليه فإصيب بكسور عدة ومختلفة نتج عنها اصابته بـ "الشلل" النصفي.

يسرد القدسي قصة مرضه واصابته التي تندرج تحت ما يعرف بـ "اصابة عمل" لانها كان في وقت عمله ودوامه في الشركة اثناء اصابته. فيقول: " كنت اعمل سائقا لدى الشركة وتعرضت في العام 2006 لحادث نتج عنه اني اصيبت بالشلل بنسبة 40 في المائة، وهنا بدأت معاناتي.. كسر في اليد اليسرى والرسغ الايسر ، كسر متهشم في عظم الكعبرة اليسرى، وكسر في عظم المشط للاصبع الصغرى لليد اليسرى، وكسر في عظمتي العانة الايسر يعني اصبت بشلل بنسبة 40% ، وسبب لي الحادث قصر بالقدم اليسرى".

هذه الحادثة افقدت القدسي قدرته على إعالة أسرته .. لتبدأ معاناته النفسية وهو ينظر إلى اطفاله وأغلى شيء لديه بعد الله في الحياة لم لا والله يقول في محكم كتابه " المال والبنون زينة الحياة الدنيا" صدق الله العظيم ... " فتحي وتوفيق وعماد وعلاء واحلام" هم زينة الحيادة الدنيا بالنسبة لعبد الحكيم القدسي .. الدمع ينساب على خديه وهو يذكر اسمائهم لمراسل وكالة "خبر" وهو يتأمل الحروق في جسده .. ولسان حاله يقول لأطفاله :" اليوم اصبح والدكم مشلول ولديه اصابات حروق تشوه جسده"!.

يتابع الكدرة حديثه حول الحادث: " فور تعرضي للحادث تم نقلي للمستشفى الالماني الحديث بتاريخ 8/4/2006 وعقب خروجي من المستشفى اوقفت الشركة علي "التأمين الصحي والعلاج"!. مع العلم بان الشركة قامت بتحميل الشركة الكويتية كافة المصاريف الطبية التي دفعتها لي وانا في المستشفى.

يمثل موقف الشركة هذا ، من موظف أصيب أثناء عمله ويعيش حالة نفسية صعبة بعد وصول حالته إلى "الشلل"، دافعا نحو الشعور بالاحباط والخوف على مستقبل ابنائه، هذه التصرفات والقرارات القاتلة والمحبطة التي لا تجد قانون يعارضها ، ولا شروط عقود العمل لدى مثل تلك الشركات تنص على حفظها وحمايتها.

وبعد هذا الموقف من قبل الشركة يقول القدسي: "العودة الثانية للمستشفى كانت على حسابي الخاص لمتابعة حالتي الصحية (موثقة بالتقارير الطبية والفواتير المالية وتقرير من المستشفى بالمبلغ"، وكانت معظم الأموال التي ادفعها للمستشفى عبارة عن تبرعات من الزملاء في العمل بواقع 500 ريال من كل واحد! وايضا قمت بالاقتراض من زميل لي "عبدالواحد الباشا" على ان يتم تقسيط المبلغ من راتبي لمدة ستة اشهر". "فلم اعد استلم من راتبي الشهر سوى عشرين الف ريال فقط"

بداية مرحلة الديون
بدأ موظف شركة النفط المشعل النار في جسده ، وهو يتحدث عن كيفية جمعه لمبالغ مالية من اجل مواصلة علاجه للاستشفاء من اصابته كي يتمكن من العودة لعمله ومواصلة حياته المهنية والاسرة بالشكل الذي قنع به ،يتحدث وعلامات الحسرة واليأس والخنوع والعجز تظهر في ملامح وجهه التي شوهها الحريق ومع ذلك تستطيع ان تعرف حالته من خلال نبرات صوته المتحشرج بالبكاء محاولا إخفاء دموعه بقدر استطاعته..

يقول القدسي : من خلال فرق الزملاء تجمع لي مبلغ 80 الف ريال فقط، هذا المبلغ لا يكفي بالنظر لحالتي الصحية ، ولكني عودت للمستشفى بتاريخ 11- 10-2011 ، ونصحوني بالراحة لاستعادة نشاطي. لكني عودة لمزاولة عملي رغم اصابتي كونه لا يوجد لي دخل او من يعول اسرتي غيري ، لكن استمرار تقسيط راتبي وبقائه بحدود العشرين الف وهذا لا يكفي قيمت خبز لاسرة مكونة من سبعة افراد ومسؤوليات عائلية اخرى" حسب وصفه.

عند هذه المأساة الحياتية في ظل الوضع الراهن وفي ظل ارتفاع اسعار السلع الاستهلاكية المستمر ، وفي وجه متطلبات البيت والاطفال والاسرة ، وقف القدسي ككثير من اليمنيين عاجزا وهو في حالة صحية "شبه معاق "وفي أجواء وظروف عمل لا تساعده على استمرار حياته التي اعتاد عليه.. عند هذه الظروف اتخذ سائق شركة كنديان بتروليم يمن، البحث عن تحسين دخله.

قرض السيارة
يقول القدسي: "بعدها قمت بالاقتراض من البنك وقام بضمانتي احد زملائي في العمل وكوننا نستلم رواتبنا من بنك اليمن الدولي توجهت الى البنك لاقتراض مبلغ لشراء سيارة "تكس" اكون اصرف بها على اولادي واسرتي، وكان الراتب يذهب معظمه لسداد ما علي من ديون، وما اجده بيومي من التكس اسد فيه رمق ابنائي واسرتي".
بهذا الحل البسيط عاد عبد الحكيم القدسي لترتيب حياته اليومية في ظل التكس وما تبقى من راتبه "20 الف ريال" شهريا، وعادت قناعته الراسخة في الحياة مع قرة عينه "اطفاله" .. لكن الشركة لم تكتف بخصم راتبه لسداد دينه بشأن علاجه من إصابة العمل.. بل قامت باتخاذ قرار "التسريح الجماعي" لعدد من الموظفين ومن بينهم عبد الحكيم القدسي السائق في الشركة.

"قامت الشركة بتسريحي انا وزملائي من العمل كوننا طالبنا بحقوقنا" يقول القدسي وهو يسرد لنا مأساته، ويضيف:" وعقب تسريحي من العمل انا وكافة زملائي جاء ضميني في البنك "زميلي" لياخذ التكس مني وتسليمه للبنك كونه كان ضامن وانا اصبحت بلا عمل .. وعقب اخذ التكسي فقدت كل مقومات الحياة المادية لأسرتي"؟! هنا توقف القدسي عن الحديث وبدأت دموعه في الانسياب لا اراديا .. فأنزلت رأسي نحو الأرض كي افسح المجال لدموعه مواصلة مشوارها نحو اللحاف الابيض الذي كان يغطيه على سرار قسم الحروق... لكم تخيل الموقف والمشهد الذي نحن فيه.. قاطع الصمت بالاشارة إلى ان اطفاله لم يتمكنوا من دخول المدرسة بسبب هذا الوضع المادي الذي وصل اليه.

بعد الهدوء قليلا اصر على مواصلة حديثه ليشرح لنا بقية المأساة ، فيقول: " وتوجهنا مع زملائي المسرحين من العم إلى كافة المرافق الحكومية ذات الصلة لانصافنا ،لكننا لم نلاق اي جواب او تفاعل من أحد ، وكانت كل جهة ترسلنا للجهة الاخرى، وضاقت بي الدنيا ولم اعد اتحمل اكثر فاولادي واسرتي عانت من ظروف معيشية صعبة، وزاد الظلم ولا زالت علي ديون كثيرة ،فلمن اشتكي ومن ينصفني من هذا الظلم الذي وقع علي انا وزملائي"؟
بهذا التساؤل تركنا القدسي وصدورنا تضيق من الكرب لحالته التي توجد منها العشرات بل المئات في اوساط الشعب ، مع توقف الحكومة عن أداء مسؤولياتها الاخلاقية تجاه مثل هذه الحالات وتجاه الفقراء التي بدأت الارقام بأعدادهم لدى العديد من الجهات الدولية قبل المحلية.
وكان القدسي اقدم على اشعال النار في جسده الثلاثاء امام مقر حكومة باسندوة ،احتجاجا على عدم تجاوبها مع مطالبه ومطالب أكثر من 270 متعاقدين سابقين مع الشركة تم تسريحهم من وظائفهم بطريقة تعسفية، بعد أن سلمت الشركة قطاعاتها للحكومة أواخر العام الماضي.