ملف| مثقفو اليمن بين العواطف والعواصف (2-2)

الحرب لا تستعر نيرانها في أجواف المدافع، بل تتعدى ذلك إلى قلوب الناس وأفكارهم.. والحرب في - الآن ذاته - لا تحدد من هو صاحب الحق وإنما بمقدورها أن تحدد من تبقى..

وهي مأساة يستعمل فيها الإنسان أفضل ما لديه ليلحق بنفسه أسوأ ما يصيبه.. وللتذكير فإنه لم يكن هناك على مر التاريخ والعصور أبدا حرب جيدة أو سلام سيء..

ولكنها الحرب ما علمتم وذقتم نعلنها عندما نريد ولكننا نعجز عن إنهائها وقتما نحتاج..
وإيمانا منا في - وكالة خبر - بضرورة الإعلاء من صوت العقل والحكمة والإسهام لمحاولة إطفاء نيرانها... التقينا مجموعة من مثقفي اليمن وطرحنا عليهم تساؤلات عن

ما يستوجب على المثقف اليوم لإيقاف الحرب والتصدي للقتل اليومي والمجازر الإنسانية؟ كيف يرى المثقفون الحرب.. وماذا خلفت في أعماقهم؟ وماهي خطواتهم القادمة لإطفائها.. وخرجنا بهذه الآراء والمساهمات الفاعلة:

رجل واحد.. كلمة واحدة

كانت البداية مع الشاعر/ جبر البعداني: النفس البشرية بالفطرة تميل إلى الطمأنينة والحب والسلام وتنفر من الكره والحرب، تأنس بالعيش وتخاف الهلاك، وتبحث عن الراحة ما استطاعت إليها سبيلا وإن تحولت إلى غير طبيعتها وسجينها فإنها لا تفقد البذرة السليمة الا بعد أن تتشرب الذنوب والآثام حتى تصير القلوب كالأكواز المجخية وفيما عدا ذلك فإن فرصة إعادتها إلى جادة الصواب ممكنة إذا صدقت النية وتبع القول العمل. إن ما حدث في حرب داحس والغبراء وما كان من تلك المبادرة بالسلام التي خلدها زهير في معلقته.

نعم باستطاعة المثقفين والأدباء والشعراء والخطباء والإعلاميين وقف النزيف وإيقاف الحرب الملعونة. ونحن سنتكلم هنا عن دور الأديب ولكن قبل ذلك يجب أن تكون حقيقة هذه المبادرة كحقيقة الإيمان "اعتقادٌ بالجنان وقولٌ باللسان وعملٌ بالأركان" فالنية والقول اللذان لا يفضيان إلى العمل لن يقدما شيئا.

الشاعر/ جبر البعداني
الشاعر/ جبر البعداني

وحتى تنجح المبادرة كيف أن نلتزم بالوصفة العلاجية التي قدمها الدكتور المقالح والتي اعتبرها هي اللبنة الأولى لهذه المبادرة، ولكن الوصفة لم أجدها في كتابات غيره وهي "كونوا على رجلٍ واحد وكلمة واحدة" لابد أن تناسى خلافاتنا ونسامح ونكبر على الجراح ونغض الطرف عن الهفوات وأن لا ننصب أنفسنا قضاةً ولكن رسل حب وسلام مذكرين لا مُنذِرِين إلا قليل (وهو من باب النصح).

يجب أن نعي أن لكل طرف أتباعه وأشياعه وانصاره من الأدباء فَلَو دافع كل فريق عن ما يظنه صواباً لما استقام الأمر، بل ولزادت الفجوة واستحال رأب الصدع، ولكن لنكن مع الوطن ولنتنازل قليلا عن قناعاتنا السياسية والتي ربما لم تكن على الحق. يجب أن نستوعب المتشدد والمتزمّت والمغالي ونأخذه باللين والحب والقول الحسن، كما يجب أن لا يكون خطابنا موجها إلى تجار الحروب ورؤس الفتن، لكن إلى مادتها "الطيبين ممن يموتون بلا ثمن" فهؤلاء هم الحقيقون بالحياة.

فكرة عبدالرقيب بطباعة الديون سامية ومبادرة الجهمي بالمشاركة نبيلة وكريمة جدا وانا معهما، بإدن الله، ولكن يجب أن تكون مادة الديون مفعمة بالسلام والحب والترفع عن التذكير بالجرح ومحاكمة الفرقاء والنيل منهم، حتى تهدأ النفوس، وتبرأ الجراح،
وليكن أمام أعيننا ماذا تظنون أني فاعلٌ بدمي
قالوا كريما فألقى عندها عنفه
بالحب سننتصر وبه سنحيا وكما قال جاسم الصحيح
كلّما زاد عاشقٌ قلّ طاغٍ
فاعشقيني لكي يقل الطغاةُ

انشروا ثقافة الحب والتسامح، علموا الناس أن يحبوا الحياة، علموهم أن الاستخلاف الذي وعد الله به شرطه إعمار الأرض.. وأخيرا كونوا كما قال المقالح أطال الله عمره "كونوا على رجل واحد وكلمة واحدة"، وكونوا على رجلٍ واحد، أي قلب رجل واحد، أي تتحد القناعات وليس القصد أن تولوا أمركم رجلاً..
ولَكم من الحب ما يفيض عليكم سلاما.

وحدة الصف ورأب الصدع

الشاعر/ خالد عبيد
الشاعر/ خالد عبيد
الشاعر/ خالد عبيد تنفس الصعداء فور توجيه سؤالنا له وقال: يستوجب علی المثقف أن يقف في صف الوطن وأن يتجرد من الولاءات الضيقة، وأن ينأ بنفسه عن الإنجرار إلی دوائر الاحتراب والأمراض القاتلة التي تفشت من مذهبية ومناطقية، وأن يستشعر المسئولية الملقاة علی عاتقه وضميره في الحفاظ علی وحدة واستقرار اليمن.

يری المثقفون الحرب وبالا حل علی البلاد والعباد، وناراً شعواء تلتهم كل ما هو جميل، ناراً وقودها الأوطان والإنسان، هذا الجحيم لا يفرق بين طفل ومرأة أوشيخ، لا أخلاق لها ولاضمير يزجرها، ولايستفيد منها سوی أعداء العرب وأعداء الاسلام وأذنابهم من أمراء وتجار الحروب عديمي الأخلاق والضمائر والانسانية. لقد خلفت في أعماقنا الكثير من الجراح والكثير من المآسي وأصبحت الحياة أطلالا بعد أن كانت صروحا عامرة بكل ما هو جميل ومشرق.

يجب أن تنصب خطواتهم القادمة في نشر وتعزيز ثقافة التسامح والسلام والخير، والمضي نحو تضميد الجراح للخروج من النفق المظلم، والدعوه إلی وحدة الصف ورأب الصدع الذي خلفته الحرب الجائرة والعبثية وأن يكونوا قدوة لغيرهم كونهم حاملي لواء الأدب والرقي والأفكار المستنيرة.

السلام يولد من رحم الحرب

الشاعرة والاكاديمية/ حورية صالح السقاف، نظرت للموضوع من زاوية مختلفة ورأت أن:
كيف ينشد المثقف السلام والمحبة ويسعى للتعايش السلمي؛ في الوقت الذي لا سقف لبيته يقيه الشظف: فالأمطار تجلده، والشمس تحرقه، والأتربة تملأ أرجاء قلبه التواق للحياة بسلام و طمأنينة؟

الشاعرة/ حورية السقاف
الشاعرة/ حورية السقاف
عنوة عليه أن يتنفس كل ملوثات الحياة، بصمت وخنوع وإن حاول أن يناهض وضعه المزري؛ أغدقوا عليه بالأموال ليسكت ولا ينبس ببنت شفة، بل عليه أن يصفق لمن جعل هذا الوضع و ضعه مادحاً مترضياً عنهم.

كيف له أن يقدم حلولاً كي يعيش ــ فقط ــ بسلام وطمأنينة، وهو ووطنه تحت الوصاية: وصاية أجنبية أو عربية أو حتى وصاية أبويةـــ على الصعيد الشخصي ـــ كأدنى حد في الوصاية.

عليه بادئ ذي بدء، التحرر من التبعية باذلاً لأجل ذلك كل غالٍ. وفي سخاء الأحرار عليه تقديم التضحيات دماءً و أرواحاً؛ حتى ينال استقلاله وحريته كوطن وكإنسان، ثم ينشد السلام ويبحث عن الطمأنينة والمحبة، وأنّى له ذلك وقلمه في جيب الوصي والمتبوع.

هكذا لابد أن يكون المثقف الذي لم أجده في اليمن، المعتدى على سيادته أرضاً وإنساناً، ولن يكون هناك مثقف؛ ما دام هذا هو شرعهم في بيع الأوطان للعدو الذي ما برح أن هتك النسل والحرث، مقابل صمتهم، والغرض من هذا الصمت والحياد؛ ليفهم الرأي العام أن هناك فوضى في البلاد ولابد من القضاء عليها، بل وفوق هذا هناك من هذه الجماعة المحسوبة على الوطن أنهم نخبة مثقفة ـــ كونها أصدرت كتاباً، أو أن لديها أكثر من لغة ـــ مَن برر بصريح العبارة أنه لابد أن يظلوا تحت الوصاية والعبودية المهم أن يكون هناك سلام وطمأنينة.

وعليه اتركوا الوطن لمن هم أهلٌ له، حتى ينال الوطن حريته واستقلاله بعد ذلك اخرجوا من جحوركم المتخمة بالزيف والمال المدنس وانشدوا سلامكم ومحبتكم النابعة من أرصدة في البنوك و المصارف الآلية.

اتحادهم فاعلية وقوة

الشاعر/ أحمد الجهمي
الشاعر/ أحمد الجهمي
أما الشاعر/ أحمد الجهمي فقد ذهب بعيدا ووضع يده على جرح عميق وشخص الظاهرة قائلا:
رأيي أن المثقف لايمكن أن ينجح أو يساهم في ايقاف الحرب ما لم يتحد المثقفون في وضع آلية عمل واضحة، فالجهود الفردية لاتغني... ما لم يساهم الإعلام بقنواته المختلفة في إيصال رسالة المثقف للمجتمع بفئاته المختلفة.

يحارب بقلمه للتنوير

الشاعرة / ابتسام أبو سعدة: نحن في زمن الحرب والحرب ليست حرب قتل ودماء فقط اليوم الحرب مفتوحة من كل الجهات.. وأخطرها الحرب الفكرية التي تستقطب العقول وتسيرها كيفما شاءت، وعلى المثقف هنا أن يجاهد بقلمه في سبيل تنوير العقول.. وتسليط الضوء على العيوب وكيفية إصلاحها والدعوة إلى نشر السلام والمحبة والوعي لدى الكثيرين حتى لو أدى به ذلك إلى النزول بمستوى الكتابة ليفهم الجميع.. البسيط قبل المثقف فليحارب ما استطاع بقلمه.. ليساند ويوازن الكفة الأخرى من الميزان وليحارب بسلاحه القلم إلى أبعد الحدود..

هي الحرب، إذاً، لعنة أهل الأرض وسر شقائهم.. الأفعى التي تلتهم لحوم البشر، بل هي أبشع لا حقيقة لها في ازدحام الموت المجاني سوى ما يكتمه الجميع عن الجميع وهي أوضح في قصيدة "مشاهد عدنية" للشاعر/ عبدالله عبيد التي يقول فيها:

كانتْ تمشّط شعر
طفْلتها الصغيرة عندما قصفتْ
مقاتلةٌ جدار البيت في عدنٍ
وكان الـجُنْدُ في الطرقات
يقتلُ بعضهم بعضًا بلا هدفٍ،
لعلّ الماوراء يفيق من عدمٍ يظللهُ

كانت جراحات الصبيّ ترنُّ في أذن الصدى:
- "قتلوا أبي، قتلوا أخي وشقيقتي.. قتلوا هواء الله
في رئتي، عراءً فاغرًا غدتِ المدينةُ كلها"،
لاشيء.. يكْتُبُ شاعرٌ يهذي بأغنية يبللها انتظار البحر:
- يا موج انتظرناك.. انتظرناك، القوارب لم تعدُ
من ملحها، والراحلون إليك أنهكهمْ "دوار البحر"،
يكتب شاعرٌ ما ليس يكتبهُ سواهُ ويرتمي في الريح
علّ قصيدة من آخر المعنى تُبلِّلُهُ

كانت أغاني الفرس تصهل في البلاد جميعها
لا شيءَ يبدو واضحًا،
كسر اليقين زجاجهُ بالأمس واختار الغياب،
"الساحل الذهبيُّ" يلفظُ موجهُ،
لا شيء يبدو واضحاً..لاشيءَ
يهرب السائق الباص المسافر
حاملًا ذكراه جرحًا لا يجفُّ،
لعلّ ما في الروح من وجعٍ يُعَـــلِّلُهُ

كانت كلابُ الحيّ تنهش
لحم قتلانا وقتلاهم
يقول مراسل الأخبار:
لم أجد الحقيقة في ازدحام الموت،
رأيتُ ما كان يكتمهُ الجميع عن الجميع،
كتمتهُ ونقلْتُ ما نسي الـمُقاتل فِعْلَهُ،
غلّفتُ تقريري بمعنى غائمٍ ورسلْتُهُ،
في الريح ما يكفي لينطلق الكلام على سجيَّتهِ
وتنكشف النهاية كلها،
لم أعتقد أنّ النهايةَ قد تكون قريبةً
في الريح ما يكفي ليختبر الكلام فضاءَهُ
ويصوغ أسئلةً تُؤوِلُـــهُ

- ملف| مثقفو اليمن بين العواطف الإنسانية وعواصف الحرب (1-2)