هل سيهدر السّيسي فرصته في إصلاح الاقتصاد المصري؟

الوضع الاقتصادي الّذي تزداد هشاشته في السّعوديّة يعني على الأقلّ أنّه بعد عامين من الآن، لن تستطيع مصر أن تعوّل على هبة أخرى بهذا الحجم.

منذ زيارة العاهل السّعودي الملك سلمان إلى القاهرة في أوائل نيسان/أبريل، دخل السّيسي في مرحلةٍ يحاول فيها الحد من الأضرار، عبر احتواء أزمة أشعلها إعلانان متزامنان تقريباً، هما: أن مصر ستمنح المملكة العربيّة السّعوديّة السّيادة على جزيرتيْن في البحر الأحمر، وأن الرّياض ستقدّم مساعدة اقتصاديّة ضخمة إلى القاهرة. وفي أعقاب هذيْن الخبريْن - المقترنيْن بالتّقارير الّتي أفادت أنّ الملك سلمان أمطر كبار المسؤولين والبرلمانيّين المصريّين بوابلٍ من ساعات الرّولكس - استنتج الكثيرون أنّ السّيسي "باع" الجزيرتيّن.

وقد تمّ تلقّي الخبريْن بشكلٍ مروّع، الأمر الذي حفّز آلاف المصريّين إلى تنظيم تظاهرات ضخمة لم تشهد القاهرة مثلها منذ سنوات، حيث طالب المحتجون مرّة أخرى بإسقاط النّظام. وبسبب التّركيز الكبير على مسألة الجزيرتيْن، لم تُلاحَظ أبداً أهمّيّة الهبة السّعوديّة. فمن دون هذه المساعدة الّتي تبلغ 22 مليار دولار، تتّجه مصر على ما يبدو نحو انهيار اقتصادي.

وطالما واجهت مصر تحدّيات اقتصاديّة، لكنّ الوضع تداعى بشكلٍ ملحوظ خلال العاميْن الماضييْن - منذ تولّي السيسي السلطة في انقلاب عسكري - بسبب تراجُع السّياحة وعائدات قناة السّويس، بالإضافة إلى التّمرّد الإسلامي المستمرّ بقيادة تنظيم «الدولة الإسلامية» («داعش»). ومع تدنّي الاحتياطات الأجنبيّة إلى مستويات خطيرة، وبلوغ معدّل التّضخّم السّنوي نسبة مذهلة قدرها 9 في المائة وارتفاع معدّل البطالة إلى أكثر من 13 في المائة ووصول العجز في الميزانيّة إلى حوالي 12 في المائة، فإن ماليّة القاهرة واستمراريّة حكومة السّيسي واستقرار مصر تواجه جميعها خطراً متزايداً.

وفي حين بذل السّيسي جهوداً متضافرة لتشجيع الاستثمار الأجنبي المباشر، فإنه لم يعالج مشاكل الاقتصاد البنيويّة والأساسيّة في مصر، وأهمّها الدّور المتضخّم الّذي تؤدّيه القوّات العسكريّة في النّظام المالي - حيث يسيطر الجيش على ما يقرب من 30 في المائة من الاقتصاد - ودعم الموادّ الغذائيّة والطّاقة الّتي تمثل حوالي 20 في المائة من الميزانيّة السّنويّة. فهذه الإعانات، بالإضافة إلى رواتب سبعة ملايين موظّف في دواوين الدّولة المتعدّدة والمتضخمة وخدمة الدّين، تساوي 80 في المائة من الإنفاق الحكومي السّنوي.

تنفيذ التّدابير سيتطلّب رأس مالٍ سياسي بات يفتقده السّيسي
تنفيذ التّدابير سيتطلّب رأس مالٍ سياسي بات يفتقده السّيسي

ومن القضايا الّتي تزيد الأمور تعقيداً، ولادة طفلٍ جديد كلّ تسع عشرة ثانية من الزّمن تقريباً، الأمر الذي يشكّل نموّاً سنويّاً يعادل 2.6 في المائة، وما يعني أنّ عدد سكّان مصر قد يتضاعف ليصل إلى 180 مليون شخص بحلول عام 2050، في الوقت الذي يعيش أكثر من نصف المصريّين تقريباً على أقل من دولاريْن في اليوم.

إن الوضع سيّء للغاية لدرجة أنّه حتّى في مصر، حيث تُعرف الحكومة باعتمادها سياسة الحجب، أُضطر رئيس الحكومة شريف إسماعيل في آذار/مارس المنصرم إلى إصدار بيان سياسة عامّة حول وضع الاقتصاد في البلاد. وكان البيان المؤلف من 205 صفحة يتسم بالتشاؤم.

وبالرّغم من استمرار الغضب الشّعبي بسبب مسألة الجزيرتيْن، قد يمكّن سخاء السّعوديّة لمصر بزعامة السّيسي أن يعكْس المسار الحالي. فالمساعدة التي تبلغ 20 مليار دولار تهدف إلى ضمان شراء مصر مشاريع النّفط السّعوديّة، فضلاً عن بعض التمويل لزيادة القدرة على توليد الطّاقة، و1.5 مليار دولار لتحريك بعض التنمية الاقتصادية في شبه جزيرة سيناء حيث استفحل تّمرّد تنظيم «داعش».

ولم يكن هذا التّمويل، الّذي يغطّي السّنوات الخمس المقبلة، ليأتي في وقتٍ أفضل. ففي عام 2015، اكتشفت شركة إيطاليّة حوالى ثلاث مائة تريليون قدم مكعّب (8.5 تريليون م3) من الغاز الطّبيعي على بُعد مائة ميلٍ (160 كلم) من الشّاطئ المصري. ويمثّل هذا الاكتشاف، الّذي تصل قيمته إلى 100 مليار دولار والّذي سيصبح مفعلاً بعد سنتيْن أو ثلاث سنوات، وثبةً نوعيّةً للاقتصاد المصري. وبانتظار بدء تدفّق هذا الغاز الطّبيعي، ستشكّل الهبة السّعوديّة دعماً لا بدّ منه لمساعدة القاهرة في ردم الفجوات الماليّة الجوهريّة والمتفاقمة الّتي تعاني منها.

وما هو أهمّ من ذلك كلّه هو أنّ هذا التّمويل السّعودي يشكّل فرصةً أمام السّيسي للمباشرة أخيراً بإصلاحات بنيويّة جدّيّة، من بينها زيادة الضّرائب على الأغنياء في مصر، الّذين يدفعون حاليّاً معدّلاً حديّاً يبلغ 22.5 في المائة فقط، مع إدراج ضريبة القيمة المضافة وضريبة الأرباح الرّأسماليّة شيئاً فشيئاً، وتخفيض رواتب القطاع العام، وتكييف الأنظمة لتحسين محيط الأعمال والاستثمارات. وتقول الحكومة إنّها ستقوم بترشيد دعم الطّاقة إلى الفقراء، من خلال تقليص حجم هذه النّفقات بنسبة 43 في المائة في العام المقبل. وعبر زيادة الضّرائب وتخفيض دعم الطّاقة، وإن كانت هذه خطوات صعبة، ستتمكّن القاهرة من زيادة دعم المواد الغذائيّة للجموع الفقيرة الّتي تعاني في ظلّ التّضخّم الهائل، والتخفيض من العجز الخانق في الوقت نفسه.

ولسوء الحظّ، ليس من الواضح ما إذا كانت مصر ستغتنم هذه الفرصة. فتنفيذ هذه التّدابير سيتطلّب رأس مالٍ سياسي بات يفتقده السّيسي إلى حدٍّ ما في أعقاب فضيحة الجزيرتيْن. وفي المرّة السّابقة الّتي كانت فيها الأموال تغمر السّيسي - عندما حصلت مصر على 20 مليار دولار من المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة والكويت في عام 2013 - لم تُتعب القاهرة نفسها، وبدلاً من اتّخاذها قرارات صعبة، أهدرت ثروتها وأضاعت الفرصة لإحداث تغيير حقيقي ومستدام.

على واشنطن و"صندوق النّقد الدّولي"، الّذي يستعدّ لإقراض مصر مليارات الدولارات في الأسابيع المقبلة، ألّا يدَعا السّيسي يُضيع فرصةً أخرى. فلمصر سوابق في إرجاء الإصلاحات الإقتصاديّة، لكنّ النّافذة قد تُغلَق تدريجيّاً. فالوضع الاقتصادي الّذي تزداد هشاشته في السّعوديّة يعني على الأقلّ أنّه بعد عامين من الآن، لن تستطيع مصر أن تعوّل على هبة أخرى بهذا الحجم.

وعلى الرّغم من مكانة السّيسي الضّعيفة حاليّاً، أثبت الجنرال السّابق - من خلال تحسين أداء الشّبكة الكهربائيّة في مصر وقدرتها الإنتاجيّة في عام 2015 قبل بداية فصل الصّيف الحارّ - أنّه قادرعلى تنفيذ سياسات معقّدة وتحقيق تغيير إيجابي، عندما يُبدي تركيزاً والتزاماً. وبينما قد يتلاشى الجدال حول الجزيرتيْن في النهاية، إلا أن الأزمة الاقتصاديّة المصريّة لن تهدأ إلّا إذا اعتنقت القاهرة الإصلاح.

ديفيد شينكر هو زميل "أوفزين" ومدير برنامج السياسة العربية في معهد واشنطن.

* "ناشيونال إنترست"/ معهد واشنطن