"ذا نيشن": لماذا يتجاهل العالم اليمن؟

البروفسور خوان كول*

في حوالي الساعة الرابعة والنصف من يوم مشمس في أبريل من عام 1937، شعر السكان اليساريون في مدينة غرنيكا الباسكية الإسبانية بالذهول - ثم فزعوا بسبب حملة القصف التي قام بها النازيون الألمان، والتي ضربتهم مرارا وتكرارا لمدة ساعتين متتاليتين حيث ألقي ما يقارب خمسون طنا من القنابل الحارقة، وقد غادرت الطائرات الأجواء مخلفة مجزرة وحرق عشرين بالمئة من المدينة.

صدمت الغارات والمجازر تلك ضمير العالم وألهمت الرسام بابلو بيكاسو لرسم اللوحة الأكثر شهرة "بيكاسو" التي استوحاها من ذلك اليوم المدمر. لقد رأيت تلك اللوحة مؤخرا في مدريد في ربيع هذا العام. لم يشد انتباهي في اللوحة الجثث الملقاة على الأرض أو الحصان الدامي أو الرجل المسجى وبيده اليمنى سيف، بقدر ما شدني وأرعبني منظر المرأة التي كانت تحمل طفلا ميتا بين ذراعيها، تصرخ ولا عزاء لها، وغارقة في الجنون. ما شاح في ذهني كيف أصبح ضميرنا العالمي أكثر غلظا وفظاظة، ونحن نشهد المئات من مجازر "الغرنيكا" كل شهر وكل أسبوع في اليمن.

والأسبوع قبل الماضي قصفت الطائرات الحربية التي تقودها السعودية قرية العطيرة في محافظة تعز جنوب صنعاء، حيث استهدفت مأوى للاجئين وقتلت 20 مدنيا بريئا. وكان الضحايا من النازحين داخليا الذين فروا من جحيم الحرب، وأغلب الضحايا من ثلاث أسر. وكان من بينهم سبع نساء وأربعة أطفال. كنت أتساءل فقط ما إذا كانت الأم الناجية، تحمل طفلها بين ذراعيها، بنفس الطريقة التي فعلتها امرأة "بيكاسو" الثكلى!.

نشهد  المئات من مجازر الغرنيكا كل أسبوع في اليمن بينما ينتظر اليمنيين بابلو لرسم ألف لوحة بيكاسو
نشهد المئات من مجازر الغرنيكا كل أسبوع في اليمن بينما ينتظر اليمنيين بابلو لرسم ألف لوحة بيكاسو

وفي جميع أنحاء اليمن، قام التحالف الذي تقوده المملكة العربية السعودية - ويقدم له الجيش الأمريكي الدعم اللوجستي والاستراتيجي والاستخبارتي - على قدم وساق، وبشكل هيستيري، وبنفس النمط والطريقة التي قام بها النازيون في الباسك، بضرب المرافق المدنية والمنازل والمدارس والمستشفيات والجسور الرئيسية المستخدمة في النقل الغذائي وغيرها. وقد شوهت الضربات الجوية، صنعاء القديمة، وهي موقع تراثي وتاريخي أدرجتها اليونسكو في قائمة التراث، وحولت بعض أحياءها التاريخية إلى أنقاض، وسوتها بالأرض.

وهذه المنطقة تحت سيطرة جماعة الحوثيين التي استولت على العاصمة في خطوة غير مدروسة في سبتمبر 2014، وعززت الحكم على جزء كبير من شمال وغرب البلاد في الأشهر اللاحقة، وفرار عبدربه منصور هادي إلى السعودية. والحوثيون هم من الزيدية فرع الشيعة المعتدلة ويستنكرون التأثير المتزايد للوهابية السعودية المتشددة.

وبحلول مارس 2015، تدخلت السعودية وحلفاؤها إلى جانب منصور هادي وجزء من الجيش الموالي له، للسيطرة على مدينة عدن الجنوبية ومحاصرة الحوثيين والقوات الموالية للرئيس السابق علي عبدالله صالح الذي تحالف بعد ذلك مع الحوثيين ضد التحالف.

السعودية وبدعم أمريكي تضرب والمنازل والمدارس والمستشفيات والجسور ومصانع الغذاء وتعامل المدنيين كقيادات حوثية بارزة OCHA/Getty Images
السعودية وبدعم أمريكي تضرب والمنازل والمدارس والمستشفيات والجسور ومصانع الغذاء وتعامل المدنيين كقيادات حوثية بارزة OCHA/Getty Images

ويدعي السعوديون أن الحوثيين مدعومون من إيران، ولكنهم في الغالب حركة محلية ناشطة. والدعم الإيراني لهم لا يكاد يذكر. وبينما كان السعوديون نشطين بشكل رئيسي من الجو، أنشأت حليفتهم، الإمارات العربية المتحدة، وحدات قتالية من النخبة في جنوب اليمن من فصيل الحراك الانفصالي محاكاة للجيش الموالي لهادي في الجنوب والشرق.

وجاء القصف المكثف حول تعز، ثالث أكبر مدينة في اليمن، كجزء من محاولة التحالف للاستيلاء على تلك المدينة والمقاطعة بأكملها من الحوثيين وحلفائهم. وتنقسم تعز الآن بين مناطق يسيطر عليها الحوثيون وحلفاؤهم من جهة وأخرى تسيطر عليها القوات المدعومة من التحالف. وتزعم مصادر التحالف أنها استولت على الطريق من ميناء الحديدة الذي يسيطر عليه الحوثيون على البحر الأحمر إلى تعز، مما أدى إلى قطع الطريق الرئيسي لإمداد الحوثيين وحلفائهم بالمدينة الواقعة جنوب العاصمة صنعاء. ويبدو أن الإمارات العربية المتحدة تسيطر الآن على ميناء مهم آخر، وهو ميناء المخا الذي يطل على مدخل البحر الأحمر في مضيق باب المندب. وتقوم أبوظبي حاليا بتركيب حاميات طويلة الأمد لدولة الإمارات العربية المتحدة. ويمر نحو 10 في المائة من التجارة العالمية عبر مضيق باب المندب في البحر الأحمر.

اليمن.. والأزمة الخليجية

د/خوان كول
د/خوان كول

وتعد الحرب اليمنية أحد العوامل المثيرة للقلق التي أدت إلى نشوب الأزمة الحالية في مجلس التعاون الخليجي الذي يضم ست دول - المملكة العربية السعودية والإمارات والبحرين والكويت من جهة، وقطر من جهة أخرى (باستثناء عمان). ولم توافق قطر على التدخل العسكري الواسع النطاق في اليمن، وحثت على التفاوض مع الحوثيين ولم ترسل سوى قوة رمزية للمساعدة في حراسة الحدود السعودية من الهجمات الانتقامية من داخل اليمن. وعندما قام الملك السعودي سلمان وأقرب ثلاثة حلفاء خليجيين بمقاطعة قطر في يونيو، سحب حاكم الإمارة الصغيرة الشيخ تميم آل ثاني قواته من المنطقة الحدودية السعودية بالكامل.

وأضحت هذه الحدود الآن مسرحا للقتال والغارات، حيث قتل ثلاثة جنود سعوديون في هجوم للحوثيين وقوات الرئيس صالح في وقت سابق من هذا الأسبوع فقط. ولم تكن القوات القطرية أكثر من مجرد قوات رمزية، مقارنة مع عدد سكانها 300 ألف مواطن فقط، وجيش صغير وضعيف التدريب. لكن المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة أرادتا من القطريين أكثر من ذلك بكثير.

كما أن التحالف الذي تقوده السعودية زج بـ27 مليون يمني في أسوأ كارثة إنسانية في العالم. وقد أجبر نحو 3 ملايين شخص على ترك منازلهم. وغالبية السكان، 17 مليون نسمة، تكافح للحصول على ما يكفي من الغذاء لإنقاذ نفسها من الموت، و7 ملايين من هؤلاء على خطوة واحدة من المجاعة. وتقدر اليونيسيف أن 10 ملايين طفل محرومون من الرعاية الطبية الأساسية، ومياه الشرب، والمرافق الصحية، والتعليم.

طالب يقف على اطلال فصله يتأمل في السبورة بعد ان دمرت طائرات العدوان مدرسة العقبة في صعدة ( Giles Clarke for UN OCHA/Getty Images)
طالب يقف على اطلال فصله يتأمل في السبورة بعد ان دمرت طائرات العدوان مدرسة العقبة في صعدة ( Giles Clarke for UN OCHA/Getty Images)

وقد قتل بالفعل حوالي 10.000 شخص في هذه الحرب، وفي ربيع هذا العام، ظهر وباء الكوليرا. وقد أصيب أكثر من 300 ألف شخص بهذا المرض، كما أبلغ عن 5 ألف حالة جديدة كل أسبوع. وقد لقي ما يقرب من 2000 شخص مصرعهم بسبب المرض الذي سببه شرب المياه القذرة. وقد انهارت البنية التحتية لتوفير الخدمات الصحية في البلاد، حيث 30 ألفاً من العاملين الصحيين الحكوميين لم تدفع رواتبهم.

وقد اجتذبت الكارثة الإنسانية بعض التدخل الدولي. وكانت روسيا قد أرسلت مؤخرا طائرات شحن مساعدات إلى صنعاء، ونقلت رعايا روس يرغبون في الخروج من البلاد (وقد أغلق مطار العاصمة الدولي حاليا). من خلال إرسال الإمدادات إلى الشمال، انتقدت روسيا ضمنا استراتيجية الحرب السعودية الشاملة، والتي تهدف إلى إلحاق الأذى بالمدنيين بشدة، لدرجة أنهم يعاملون المدنيين وكأنهم قيادات حوثية بارزة.

وتشارك الولايات المتحدة كثيرا في جهود الحرب السعودية، ويبدو أن البنتاغون اشترى خط دعاية الرياض سعيا منه لاحتواء إيران. كما تواصل الولايات المتحدة حربها بدون طيار ضد القاعدة في شبه الجزيرة العربية، التي تمتلك ملاذات آمنة في بعض المدن اليمنية. لكن الاهتمام الأمريكي بالكارثة التي تلوح في الأفق في اليمن فاتر بشكل كبير، وترغب إدارة ترامب في خفض ميزانية المساعدات الإنسانية بشكل كبير. بينما اليمن ينتظر بابلو لرسم ألف لوحة "بيكاسو".

*البروفسور خوان كول أستاذ التاريخ ومدير مركز دراسات الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في جامعة ميشيغان الأمريكية.

*غرنيكا (بالإسبانية: Guernica) هي لوحة جدارية للفنان بابلو بيكاسو استوحاها من قصف غرنيكا، الباسك حين قامت طائرت حربية ألمانية وإيطالية مساندة لقوات القوميين الإسبان بقصف المدينة في 26 أبريل 1937 بغرض الترويع خلال الحرب الأهلية الإسبانية، وكانت حكومة الجمهورية الإسبانية الثانية (1931-1939) قد كلفت بابلو بيكاسو بإبداع لوحة جدارية لتعرض في الجناح الإسباني في المعرض الدولي للتقنيات والفنون في الحياة المعاصرة الذي أقيم في باريس عام 1937. وكان بيكاسو قد انتهى من اللوحة في أواسط يونيو 1937.

غرنيكا تعرض مأساة الحرب والمعاناة التي تسببها للأفراد، وقد صارت معلماً أثرياً، لتصبح مذكراً دائماً بمآسي الحروب، إضافة لاعتبارها رمزا مضاداً للحرب وتجسيداً للسلام. بعد الانتهاء منها طافت اللوحة في جولة عالمية موجزة العالم لتصبح من اللوحات الأكثر شهرة كما أن جولتها تلك ساهمت في لفت أنظار العالم للحرب الأهلية الإسبانية.

صحيفة "ذا نيشن" الأمريكية