ملف| صرخات مبكرة: الروائي اليمني محمد عبدالولي واستشراف المستقبل

محمد عبدالولي روائي من أب يمني وأم أثيوبية كان والده من المهاجرين الذين انضموا إلى حركة الأحرار اليمنيين له عدة أعمال سردية وروائية نذكر منها " يموتون غرباء " والأرض يا سلمى " و " صنعاء مدينة مفتوحة " وقد ترجمت أعماله إلى لغات عالمية كثيرة من أهمها " الفرنسية والروسية والألمانية والإنجليزية ".

وإيمانا منا في وكالة خبر بدوره النضالي ووعيه الإبداعي المتجاوز في ظل ظروف وصعوبات مشابهة لما يمر به الوطن اليوم كانت فكرة إعداد هذا الملف تخليدا له وتذكيرا بمنجزه الإبداعي الكثيف.

سرد الاستبصار

محمد عبد الولي؛ بشريةٌ في حجم إنسان؛ فهو واحد من الناس لا أكثر؛ لكنَّه متصلُ الوجدان بكلِّ الناس؛ وبكل الأشياء من حوله؛ ويعدُّ رائد السرد اليمني بلا منازعٍ؛ ولقد حققت الروايةُ والقصةُ كل الشروط الفنيةِ على يديهِ؛ ابتداءً من قصته الأولى "الأرض يا سلمى" 1962م؛ وقصص أخرى إلى روايته الأخيرة التي نشرت بعد وفاته 1974م بعنوان "يموتون غرباء"؛ وتنماز أعماله بأصالة الرؤى وعمق التخييل الاستبطاني؛ حيث تفصِّلُ قصصه ورواياته الأحداث بدقةٍ عاليةٍ؛ وترسمُ الشخصيات رسماً ثلاثي الأبعاد؛ وتؤرخ لها معتمدةً على خلفيةٍ؛ وعلى تبيين السببيات والدوافع؛ وعلى فلسفةِ الصراع؛ وقيامه على قواعد فلسفية ورؤية اجتماعية؛ وجذور وراثية؛ تأتي كل هذه المميزات من خبرة الروائي/ محمد عبدالولي؛ وثقافته الواسعة؛ ومحاولته تقديم خطابه المقصود بوسائل غير مباشرة؛ وطرائق كتابيةٍ شتى؛ حاول عبرها إعزاز الوطن في نفوس شخصياته؛ ربما لإدراكِهِ أنَّ نفوسهم هي موطنُ الوطنِ في المقام الأولِ والأخير.

محمد عبد الولي قاص روائي من السرب الأول؛ أسهم بجلاءٍ في تأسيس ثقافةٍ ثوريةٍ ضد التراجع الزماني والمكاني؛ وكانت قصصه تستشرف المخبوء؛ وتستنطقُ المستورَ؛ ولعلَّ في قصتِهِ "وكانت جميلة" كشفاً وتريةً جليةً لخيوط المؤامرةِ والتآمر على الثورةِ؛ بعد تحققها بثلاثةِ أعوامٍ؛ بل يكاد المرء يحسُّ أنَّ محمد عبد الولي؛ يرى بعيني قلبِهِ؛ ويستشرفُ بقرونِ استشعارٍ خفيةٍ؛ أو أنَّهُ يرى بلحظِ غير مسبوق؛ وهو ما نستشفُهُ بعد ذلك عندَ قراءتنا مجموعته القصصية الأولى "الأرض يا سلمى" التي كاشفت اقتضام الأرض اليمنية؛ وتناقُصِ أطرافِها الشماليةِ؛ كما أنَّهُ عالج العديد من القضايا الاجتماعيةِ؛ واستشفَّ ما وراءها؛ وبحث طويلاً عن الوطنِ وهموم الإنسان فيه؛ وكما لا ينفصل الضوء عن النار؛ لا ينفصل محمد عبد الولي عن قضايا وطنه الكبرى؛ في روايتهِ "يموتونَ غرباء" يقولُ: "إننا نبحثُ عن وطن، عن شعب، عن أمل.

لا تعرف كيف يكون الإنسان عندما يشعر بأنه غريب لكننا سنحاول، ولن نقف متعذرين بأن الآخرين يعوقون طريقنا". كما صوَّر آلام الغربةِ والهجرةِ خارج الوطن؛ وما يترتَّب على ذلك؛ فالأطفالُ يشيبون عند الفجر؛ والزوجاتُ يطولُ انتظارهنَّ دونَ جدوى؛ وحينَ يعود الغائبُ عن أهله ووطنه؛ لا تسبقُهُ البشرى؛ لأنَّه ببساطةٍ يعود، ولكن محمولاً على أكتاف رجال آخرين؛ وحينئذٍ تدوي صرخةٌ تسدُّ الأفق "ليتهُ لم يعد"؛ ليسَ هذا فحسب؛ بل نراهُ يمضي بعيداً في استنطاقِهِ وسبر الأغوارِ؛ يقول في "شيء اسمه الحنين" "هذه البلاد تقتل في الإنسان حاسة التفكير، تُبلِّدُ الحس، وتنهي مع مرور الزمن نشاط خلايا المخ القابلة للتفكير؛ إننا نتجمد، نتبلد، نموت كل يوم" ونرى انطلاقاتِهِ تأتي في الغالب من النقطة الحساسة؛ أو من وجهة رأيه في الأمور الدائرة من حوله فنراه يستشرف المستقبل من خلال التطلّع إليه أو الحدس به ولعل أبرز شاهدٍ على ذلك ما نجده في قصته "طريق الصين" ففي قصته هذه يخلق ما يحسه؛ ويصوِّر ما يراه؛ ويكأنَّهُ يرسل إشاراتٍ خفيةٍ لرفاق النضال الطويل ؛ يرشدُهم من خلالها لاعتمادِ نموذجِ الاشتراكيةِ الصينيةِ؛ وبكل ثقةٍ يومي إلى ذلك وكأنَّه يقرأ في اللوح المحفوظ؛ ما يعوَّلُ عليهِ في منفعةِ الناس والمكوث ـ كحلمِ للأجيالِ ـ في باطن أراضي الوطنِ.

ويموتون غرباء هو عنوان رواية لمحمد عبدالولي الانسان الأديب ، والروائي الكبير..
أحاول جاهداً ان أروي شغفي من قراءة هذة الرواية ومع كل مرة اكمل قراءتها يعاودني الشغف لقراءتها مرة بعد مرة دون ملل، لا أدري كيف استطاع هذا الروائي التعبير عن واقع الملايين من اليمنيين ماضياً وحاضراً وقد يكون مستقبلاً بكل ثقة هو رائد القصة اليمنية في القرن العشرين، ومن حيث لايدري - وقد يدري - جعل من نهايتة استشاهداً واقعياً للرواية فمات غريباً بطائرة الانتينوف فوق صحراء شبوة - حضرموت.

والتراجيديا المؤلمة ان شخصاً كمحمد عبدالولي الذي عاش غريباً في الحبشة وغريباً في موطنه اليمن ظل غريباً بعد وفاته إلى اللحظة، الكثير منا لايعرف عنه شيئاً!! في بلد كاليمن وفرد ينتمي لها يظل المبدع والمخلص غريباً ويموت غريباً وحتى الأرض تدفنه في جوفها غريباً دون أن يعرف قبره؟ومن قتله؟ ولماذا قتله؟

قرأ الواقع اليمني واستبصر مستقبله
قرأ الواقع اليمني واستبصر مستقبله
ويقول الناقد اليمني / منصور السروري عنه:

* قرأ الواقع اليمني واستبصر مستقبله:

لم يك يوم 30 أبريل / نيسان 1973 يوماً حزيناً ومبكياً وصاعقاً ومرعباً في اليمن وتحديداً في شطره الجنوبي فحسب، بل كان كذلك موجعا لكل عشاق السلام والتغيير والأدب في جميع أنحاء العالم.

والآذان التي لم تك قد سمعت عن بلد اسمه اليمن حتى ذلك الوقت، ذهبت يوم (الاثنين/ 30 ابريل) تبحث عنه أين يكون هذا البلد وفي أي جهة من خارطة العالم يقع؟

كانت جميع وكالات الأنباء والأخبار العالمية تزف للعالم خبر مصرع عشرات من كبار الدبلوماسيين في اليمن الجنوبي... بعضها تقول (42) مع طاقم الطائرة، وبعضها قالت (28) دبلوماسيا بالإضافة إلى أفراد طاقم الطائرة، واستقرت المعلومات فيما بعد عند(22) دبلوماسيا بينهم (3) أشخاص ـــ سعوديين ــــ هم طاقم الطائرة، و(19) كادر وطني يمثلون رزنامة ثورته الوطنية... تتجمع متوحدة فيهم مهارات النضال الثوري الفدائي والسياسي، والتأهيل العلمي، والإبداع الأدبي والصحافي، والوطنية الصادقة... وطن يخسر هذه الرزنامة في جنوبه، وفي شماله يسمم (عبدالقادر سعيد) أحد أبرز زعماء الحركة الوطنية، ويغتال (محمد أحمد النعمان الابن) والأكثر منهم ما بين منفي أو قتيل.... لنتصور مثل هكذا وطن كيف سيكون مستقبله؟

لقد كان من بين أولئك العظام الذين رحلوا مع فجر وطن لم يتشكل بعد.... من بين أولئك الكبار الذين رحلوا قبل الأوان شخصية تسابق ظلها فسبقت ليس فقط زمنها في إتقان قراءة الواقع الذي يعيشه اليمن بل سبقت حتى زماننا وربما الأزمنة التي ستأتي بعد.

تلك الشخصية عزيزي القارئ اسمها "محمد أحمد عبد الولي" إنسان استطاع أن يصنع فوق جدار الحياة نافذة وشرفة.

من الشرفة حكى لنا واقعه الذي عاشه، بل وأطل منها على المستقبل الذي يجاورنا فيه اليوم كأنه مازال حياً يعيش بيننا، ومن النافذة سبق عصره وحاضرنا وأزمنة قادمة، وإن لم يحدث التغيير واستمرت عجلة التاريخ دوليك دواليك تعيد تكرار دورات الذات المتعفنة فستظل أسطورته دون ريب تتوغل في أطناب المستقبل.

ارتضع حليب الانتماء للعقيدة والارض

ما لا يعلمه الكثيرون حتى هذه اللحظة، أن الأديب الشهيد محمد أحمد عبد الولي المولود في 12 نوفمبر 1940م بحي سدس كيلو (ويعني ستة كيلو) التابع لمدينة دبرهان الأثيوبية كان قد تربى تربية دينية خالصة بكل ما تحمله هذه الكلمة من دلالة.
فأبوه كان من أوائل المستنيرين والمتعلمين بل إنه يوصف بالفقيه، حد ما ورد في دراسة مشتركة قام بها كل من د. قائد محمد طربوش ردمان، وعبد الرقيب علي محمد نعمان، عنوانها (أفكار أولية عن ثلاث مدارس في الحجرية... مدارس حيفان وذبحان وبني يوسف) نشرها مركز البحوث الدستورية والقانونية على موقعه حيث أكدا أن من أشهر الذين درسوا في مدرسة ذبحان على يد الأستاذ (أحمد محمد نعمان) (الفقيه أحمد عبد الولي العبسي درس في مدرسة هرر بالحبشة وكان أحد المطلوبين من قبل الإمام أحمد بعد فشل حركة 1948م وهو أب الأديبين محمد وعبد الفتاح أحمد عبد الولي).

وهذا ليس له من معنى سوى أن أباه يعد من أوائل الذين تتلمذوا على يد (النعمان / الأب) نهاية عشرينيات القرن المنصرم، أي قبل أن يغادر مدينة عدن من على دكة الشيخ سعيد على متن زعيمه شراعية، كما كانت تسمى، الى ميناء عصب في العاصمة الأثيوبية اديس ابابا.

وأيضاً من قصة (اللطمة) وبعض القصص القصيرة التي وردت في عدد من مجموعاته سنلاحظ مدى التربية الصارمة التي تربى عليها في كنف أبيه الذي حرص كل الحرص في أن يشرب حليب الانتماء لعقيدته وأرضه البعيدة هناك حيث جذوره الأصلية في اليمن بمحافظة تعز ـــ قضاء الحجرية ـــ عزلة الأعبوس ـــ قرية حارات التابعة لناحية القبيطة، وحاليا لمديرية حيفان.

صرخة مبكرة تنذر بانتقاص الأرض اليمنية من أطرافها
صرخة مبكرة تنذر بانتقاص الأرض اليمنية من أطرافها

إن ارتضاع ذلك الانتماء لن يتقوى إلا بإرساله إلى اليمن لتعلم القرآن الكريم والعلوم الأولية التي كانت قد بدأت معالمها المبكرة تظهر في ذبحان وحيفان فاختفتا بسبب هروب اساتذتها إلى عدن أو المهجر والتحاق البعض الآخر بوظائف مع الإمام، غير أن مدرسة في بني يوسف حلت محلهما هي مدرسة الفقيه (محمد قاسم) التي التحق بها الطفل (محمد) عام 1946 مع آخرين كانوا يفيدونها من الصلو والأعبوس والأحكوم وقدس والشعوبة وخدير السلمي والمذاحج وغيرها من العزل الأخرى.

وخلال عام وبضعة أشهر كان قد اختتم قراءة القرآن فيها كما أتقن اللهجة التعزية وتعرف على طبيعة الحياة التي يعيش تحت وطأتها جميع اليمنيين.

وحين شرع المغتربون، بينهم والده، بتأسيس أول مدرسة للجالية اليمنية بأثيوبيا، أبرق إلى أقاربه يرسلونه إليه فعاد من رحلته الأولى من اليمن إلى أثيوبيا.

افتتحت المدرسة اليمنية عام 1948 في حي ماركاتو القريب من سدس كيلو فكان من أوائل الطلاب الذين التحقوا فيها، وتم قبوله في مستوى متقدم نظراً لما يتمتع به من إتقان القراءة والأساسيات في الحساب، فكان دوما الأبرز بين جميع أبناء الجالية العربية ويكرم سنوياً على احتلاله المركز الأول، ومصدر فخر للجالية اليمنية، كلها وصفه (سامي الشاطبي) وهو يتقفى أثره في رحلة إلى اثيوبيا بأنه كان (سريع البديهة، واسع الخيال، نشيطاً في القراءة والكتابة وتدوين الاحداث في اوقاتها).
ومع العام 1953 كان (محمد) قد سبق عمره وأكمل المرحلة الإعدادية ليبدأ رحلة جديدة وسباقاً آخر.

من أديس أبابا إلى القاهرة:

سافر إلى مصر فالتحق بثانوية المعادي بالقاهرة وتخرج منها عام 1955 وبمجرد ظهور نتيجة الثانوية يلتحق في صيف العام ذاته بجامعة الأزهر... فهل نستطيع تفسير ذلك؟
إن شاباً يولد عام 1940، وفي عام 55م يلتحق بالجامعة، وفي مثل تلك الظروف التاريخية، وفي بلاد غير بلاده... بلاد لا تعرف المحسوبية ولا الوساطات، ولا تباع فيها الشهادات المزورة... إنسان كهذا يسابق الزمن سيكون أحمقاً وغبياً من ينفي عنه صفة العبقرية أو يقول إنه لا يمتلك قدرات خارقة.

شيء اسمه الحنين
شيء اسمه الحنين
وفي مكتبات المعادي، وجامعة الأزهر راح (محمد عبد الولي) يلتهم الكتب والروايات العربية والعالمية، ويثري مخيلته ويرفع درجة ذائقته الادبية التي مكنته من ارتياد معظم المحافل الأدبية وحضور العديد من الندوات وتكوين صداقات عديدة مع أغلب الأدباء والفنانين المصريين، آنداك، كما بدأ يكتب القصة عام 1956.

ولأن ابن الوز عوام، كان ضمن أول كتلة طلابية يمنية في القاهرة أسست رابطة الطلاب اليمنيين بينهم (محمد أنعم غالب، وعبد الغني علي، وأبو بكر السقاف، ومحمد على الشهاري، وأبناء الإرياني "مطهر وعبد الكريم فضل الإرياني"، والشاعر أحمد الجابري، ومحمد عبد الملك المتوكل....... وغيرهم كثير) وانتخب الفقيد (عمر الجاوي) كأول رئيس للرابطة.

تناثرت أشلاء محمّد عبد الولي - حسب تعبير القاص/ رامز مصطفى -على أرض الوطن، لتعطر هذه الأرض، الوطن الذي تمزقت "روح" محمد عبد الولي لأجله، قبل أن يتقطع "جسده".

وطناً أفنى جل عمره في خدمته على كافة الأصعدة سياسياً، ثقافياً، اجتماعياً، فكافأه بالموت كعلامةٍ لنهاية مشواره الذي كان قد بدأه للتو.