الوحدة اليمنية عند الشعراء اليمنيين المعاصرين

لقد مثلت الوحدة اليمنية قضية رئيسة لدى الشاعر اليمني المعاصر وجزءا من تفكيره المثقل بأعباء التمزّق والصراع اللذين عانتهما وتعانيهما البشرية أرضا وفكرا وإنسانا...

وقد أخذ الوطنُ مساحة كبيرة من وجدانه وفكره إذ كان يراه جزءا من كيانه الجسدي وأُمّا رحيمة يترعرع في أحضانه الفسيحة ومرابعه الخضراء... وقد مضى يتغنى بشعره الإنساني تاريخ وطنه الأم وأمجاده ومناظره حينا ويبكي مأساته وتمزّقه حينا آخر..

ولم تكن الوحدة عند أولئك الشعراء مجرد دعوة إلى دمج مساحات أرضية بقدر ما كانت دعوة إلى وحدة إنسانية تسودها قيم الحب العدل والمساواة وقد تجاوزت الأحلام ببعضهم إلى الحلم بوحدة شاملة للكون بأسره ليغدو هذا الكون متناغما ومفعما بالمحبة والسلام..

وقد كان الشاعر اليمني مؤمنا ومتمسكا برسالته الوطنية، فراح يدعو إلى الوحدة وتعميق جذورها أرضا وإنسانا محطما بذلك أسوار الأنا وململما أشلاء هذا الوطن من تحت سكاكين النظرات الضيقة والرؤى المغلقة المليئة بالكره والبغض والحقد التي دمرتْ الأرض والإنسان...

ونجد من هؤلاء الشعراء على سبيل المثال لا الحصر: الفضول، وعثمان أبو ماهر والجابري والشائف وعلي ناجي الهدام وغيرهم.

وقد تراوحت قصائدهم بين المستوى اللغوي الفصيح والمستوى العامي أحيانا وبأسلوب إنشادي كون الكلمة الملحونة تصل إلى كافة الجماهير الشعبية فكان لقصائدهم الدور الكبير في تحقيق الوحدة وتعميق معناها...

فها هو شاعرنا (علي الهدام) ممن عاشوا قبل الوحدة وبعدها وقد قاسى ألم التمزق والتشطير قبل تحقق الوحدة ولذا نَجدُه يبدي تحسره وندمه على هذا الوطن الممزق إلى نصفيين حيث يقول:
ماذا أقول وماذا يكتب القلم؟ هذي بلادي إلى نصفيين تنقسم!
إن كانت الساق قبل اليوم في صفدٍ هذي لساني بهذا اليوم تنكتم
إذا تحدثتُ عن إشراق وحدتنا قالوا: كفرتَ وقالوا: أنت متهم

ورغم كل النظرات الضيقة التي تقف في وجه حلم الشاعر وتوصمه بالكفر وتشير إليه بأكفّ الاتهام لا يتراجع عن حبه لهذا الوطن والحلم بتحقيق وحدته والسعي إليها عملا وقولا حتى لو خسر روحه في سبيل تحقيق مشروعه وحلمه مشيرا بقوله:
ألا يا وحدة الشعب اليماني...... إليك الشوق يعصرني أماني
ألا يا وحدتي هانت حياتي ....... لأجلك سوف احتقر الطعان

ويقول أيضا :
وحدتي أكبر من أعداء ربعي .......فوق من يحلو له تشتيت جمعي

فالشوق يعصر وجدان الشاعر لحلم الوحدة اليمنية ولا يخشى من تقديم روحه حبا لجمع الشمل وتوحيدٍ للصفوف، وليس في قوله: (لأجلك سوف احتقر الطعان) دعوة إلى فرض الوحدة بالسلاح والقوة بل يريد القول: إنه لو كانت الوحدة مشروطة بدفع روحه لقدّمها فداءً لهذا الوطن وشعبه، وتبدو نظرته إلى الوحدة في كونها توحيدا للشعب وليس مجرد وحدةِ أرضٍ لأن الإنسان جزء من الأرض وإذا اتحد هذا الإنسان وتآلف مع أخيه اتحدت له الأرض وساد فيها الحب والسلام..

وهكذا نجد أن الوحدة عند شاعرنا الهدام مبدأ إنساني يتجاوز حدود الأنا الضيقة كونها أكبر من أفكار العداء والحقد والكراهية..ومراده بـ(أعداء ربعي) القوى الخارجية التي تثير الفتن في الوطن مستخدمة أصحاب المصالح لتمزيق هذا الوطن وتدميره، وبهذه الكلمات يجسد الهدام رؤاه الإنسانية شعرا ليصل إلى كل أبناء وطنه.

ويتصدر شاعرنا الفضول مقدمة الشعراء الوطنيين ذلك الشاعر العظيم الذي ملأ الآفاق بشعره وتغنى بحب وطنه أرضا وإنسانا...
وها هو في أنشودته الوطنية التي نرددها كل صباح يتغنى بالوطن جنوبا وشمالا وينبذ كل فكرة ممزقة لهذا الوطن وشعبه قائلا:

ليس منّا أبدا من مزّقا
ليس منّا أبدا من فرّقا
ليس منّا من يصب النار في أزهارنا كي يحرقا
*** ***
وحدتي.. وحدتي
يا نشيدا رائعا يملأ نفسي
أنت عهدٌ عالق في كل ذمة

بأسلوب خبري مبني على الحجاج الضمني يجمع بين البساطة والعمق معا يجسد الشاعر رؤاه وكأنه يقول: ليس من أبناء هذا الوطن من دعا إلى تمزيقه وتفريقه لأنه لا يمكن للإنسان أن يمزق وطنه وبلده حتى لا يجلب لنفسه ولأهله الويلات والبلاء... وبالخطاب الجماعي: (ليس منا..) يتوحد الشاعر مع كل أبناء هذا الوطن لرفض كل دعوات التمزق والتفريق وفي قوله:

(ليس منا من يصب النار في أزهارنا كي يحرقا) هنا يختلط الحب والأزهار والوحدة والأرض ليؤكد الشاعر أن الدعوة إلى الوحدة هي دعوة إلى الحب ونبذ للكراهية والحقد حيث نجده في قصيدة أخرى يتبرم من ذلك الفكر الوحشي الذي لا يؤمن بالحب ولا بالتعايش فيتمنى أن يتحول نبضا في قلوب الناس ليعمر قلوبهم بالحب ويوحد صفهم مشيرا بقوله:

ليت أني جئت في الدنيا لأحيا عليها في قلوب الناس نبضا
كان بالإمكان أن أزرع في كل صدر قاحل للحب أرضا
أي أرض هذه فيها أخ يردي أخاه
طبعها الجارح قد أعطى لقابيل مداه
فأراه يذبح الإخوة لم تتعب يداه
عاش في ساحاتها وحشا ووحشيا هواه

ويقول أيضا:
يا شمالا يحمل الهمّ بنــا ..........مطرقا يصغي إلى هم الجنوب
وحدة الشطرين في أعراقنا ...... نغــم تعــزفه نبض القلـــوب
فهي في الزورة من أشواقنا ......إنهــا لقيــــا حبيب بحبيب

بهذه الكلمات يجسد شاعرنا الفضول نظرته إلى اليمن قبل الوحدة بأنه نصف وطن لانقسامه إلى شمال وجنوب وما الوحدة إلاّ دعوة لدمج هذين النصفين ليصير وطنا واحدا مكتملا كالجسد الواحد ولن يتحقق ذلك إلا بقيم الحب والسماحة وتطهير القلوب والعقول من العنصرية والحقد والشحناء المدمرة للأرض والإنسان.

وفي الختام نَخْلص إلى القول بأنه كان للكلمة الشعرية الدور الأكبر في الدعوة إلى الوحدة اليمنية وتعميق جذورها والسعي الحثيث إلى لمّ شمل الوطن وتوحيده ورفض كل فكرة ضيقة وحاقدة تسعى إلى تمزيق الوطن وتدميره.