تأملات رمضانية في القرآن| (16) القرآن والنظام العالمي العادل

القرآن والنظام العالمي العادل

لم ينزل الله القرآن للعرب ولا للجنوب ولا للشمال ولمن عاصر نزوله، وإنما أنزله للناس كافة في كل أنحاء العالم ولكل زمن بعد نزوله وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.

لقد أوضح الله في القرآن أن القرآن هو خلاصة هدي الله للناس أجمعين، ومن ثم فانه لابد وأن يكون متاحاً للناس أجمعين. يقول الله في سورة الأنعام: [وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِن قَبْلُ وَمِن ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (84) وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِّنَ الصَّالِحِينَ (85) وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلاًّ فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ (86) وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (87) ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُواْ لَحَبِطَ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ (88) أُوْلَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِن يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاء فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَّيْسُواْ بِهَا بِكَافِرِينَ (89) أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ (90)].

لقد جمع الله في القرآن خلاصة تجارب العظماء من قبل وعلى رأسهم الأنبياء والرسل من قصصهم الله لنا في القرآن ومن لم يقصصهم علينا. وعلى هذا الأساس فإنه لا يبغي النظر للقرآن على أنه مختص بقوم دون قوم ولا بثقافة دون ثقافة. فعلى من أنزل عليهم القرآن أن لا يتكبروا على الآخرين، فيزعمون أنهم مميزون، كما فعلت بعض الأمم من قبلهم، وعلى الآخرين أن لا يرفضوا القرآن على اعتبار أنه معاد لهم.

القرآن لا يعادي أحداً، وعلى وجه الخصوص أنه لا يعادي بني إسرائيل ولا حتى اليهود. إنه لا يمكن اعتباره أنه ضد السامية وهو في نفس الوقت ليس متعصباً معهم كما يتعصبون هم لأنفسهم ضد الآخرين. إنه وصف كل قوم تحدث عنهم بما لهم وما عليهم.
وهو كذلك لم يكن محابياً للعرب لا في مكة ولا في غيرها. فقد ورد في الآيات السابقة تحذير لأهل مكة، فإن لم يؤمنوا بالقرآن فإن الله سوف يوكل به قوماً آخرين ليسوا به بكافرين.

ولأن العرب في زمننا هذا قد كفروا بالقرآن فقد ابتلاهم الله بخراب أحوالهم، ولن تصح أحوالهم إلا من خلال القرآن. لقد جربوا كل الوسائل الأخرى إلا القرآن والنتيجة كما يعترف بها الجميع، لقد أصبح العرب عالة على أنفسهم وعلى غيرهم. يقول الله تعالى في سورة يوسف: [وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ (103) وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ (104) وَكَأَيِّن مِّن آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ (105) وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ (106) أَفَأَمِنُواْ أَن تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ مِّنْ عَذَابِ اللَّهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ (107) قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (108) وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِم مِّنْ أَهْلِ الْقُرَى أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ اتَّقَواْ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ (109) حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَن نَّشَاء وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (110) لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُولِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (111)].

فإما أن يعود العرب إلى القرآن حتى ينتصروا على أنفسهم وإما يستيأسوا، فعليهم أن لا يلوموا القرآن بعدم معالجة مشاكلهم وإنما عليهم أن يلوموا أنفسهم. فإذا ما عادوا إلى القرآن فإن أمورهم ستتغير. فقد لا يستبدل الله العرب بغيرهم وإنما سيستبدل القوى المسيطرة في الوقت الحاضر بعد أن يثبت كذبها بأنها تطبق القرآن.

لابد أن يعود القرآن الى الواجهة، فهذا هو وعد الله. يقول الله في سورة ص: [قُلْ إِنَّمَا أَنَا مُنذِرٌ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (65) رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (66) قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ (67) أَنتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ (68) مَا كَانَ لِي مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الأَعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ (69) إِن يُوحَى إِلَيَّ إِلاَّ أَنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُّبِينٌ (70) إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِن طِينٍ (71) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (72) فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (73) إِلاَّ إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنْ الْكَافِرِينَ (74) قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْعَالِينَ (75) قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ (76) قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (77) وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ (78) قَالَ رَبِّ فَأَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (79) قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنظَرِينَ (80) إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (81) قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82) إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (83) قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ (84) لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ وَمِمَّن تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ (85) قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ (86) إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ (87) وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ (88)].

ويؤكد الله ذلك في سورة الأنبياء: [إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ (92) وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُم بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ (93) فَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ (94) وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ (95) حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُم مِّن كُلِّ حَدَبٍ يَنسِلُونَ (96) وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ (97) إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ (98) لَوْ كَانَ هَؤُلاء آلِهَةً مَّا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ (99) لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَهُمْ فِيهَا لا يَسْمَعُونَ (100) إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُم مِّنَّا الْحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ (101) لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنفُسُهُمْ خَالِدُونَ (102) لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ (103) يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاء كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ (104) وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ (105) إِنَّ فِي هَذَا لَبَلاغًا لِّقَوْمٍ عَابِدِينَ (106) وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ (107) قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ (108) فَإِن تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنتُكُمْ عَلَى سَوَاء وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَم بَعِيدٌ مَّا تُوعَدُونَ (109) إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ (110) وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَّكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (111) قَالَ رَبِّ احْكُم بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ (112)].

فعندما يرحم الله العرب والعالم بلفت انتباههم إلى القرآن فلن يقدر أحد على وقف ذلك. يقول الله في سورة فاطر: [مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (2) يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (3) وَإِن يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ (4) يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ (5) إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ (6) الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (7) أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَاء وَيَهْدِي مَن يَشَاء فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (8)].

إن إصلاح القرآن للعرب وللعالم ليس بنبوءة كاذية كنبوءة المهدي الغائب والذي سيولد ونزول عيسى الذي قد توفاه الله، وليس كنبوءة اليهود بإرسال رسول خاص بهم وإنما هي نبوءة قارآنية واضحة في القرآن وتدل عليها حقائق الواقع. يقول الله تعالى في سورة الإسراء: [إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا (9) وَأَنَّ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (10) وَيَدْعُ الإِنسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الإِنسَانُ عَجُولاً (11) وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلاً (12) وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا (13) اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا (14) مَّنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً (15) وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا (16) وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِن بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (17) مَّن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاء لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُومًا مَّدْحُورًا (18) وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا (19) كُلاًّ نُّمِدُّ هَؤُلاء وَهَؤُلاء مِنْ عَطَاء رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاء رَبِّكَ مَحْظُورًا (20) انظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً (21)].

هذه النبوءة القرآنية تستند من وجهة نظري إلى عدد من الحقائق على الأرض في زمننا هذا. فقد أوضح الله في سورة الإسراء أهم العوامل المسببة لمعاناة البشر وكيفة التعامل معها. والتي يمكن توضيحها وذلك على النحو التالي:

1ـ إن أهم أسباب الحروب في العالم قديما وحديثا وكذلك الارهاب المستشري في ايامنا هذه ليس الاختلاف على الحدود او الموارد او حتى على السلطة كما يصوره شياطنه ولكنهم يكذبون على الله وعلى الناس من خلال اقناع اتباعهم ان ذلك تقرب الى الله. او ان ذلك ضروري للدفاع عن الدين الحق، او انه ثار على ممارسات من اتباع اديان اخرى وغير ذلك من المبررات الواهية. ومنع لاي شبهة قد ينخدع بها بعض البلهاء من حسن النية فان الله يقول في سورة النحل: [لاَّ تَجْعَل مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَّخْذُولاً (22)]. فهذه هي نصحية أولاً للمتألهين ان لا يحملوا انفسهم مثل هذه المهام اما اتكالا على الله او على انفسهم. فمن يجبر الاخرين على تغيير دينهم بالقوة فانه طاغوت لا يحبه الله ولا ينصره. ومن يرد ان يقدم خدمة لله من هذا النوع فان الله لا يحتاجها ولا يقبل بها. فالنتجية هي الذم والخذلان من الله. وهي كذلك نصيحة لاتباع هؤلاء فان الله لا ينصر من يكون هذه حاله. الحل هو ان يتاح لكل انسان ان يختار دينه برضاه وان يتحمل مسئولية ذلك. فمن اهتدى فانما يهتدي لنفسه ومن ضل فانما يضل عليها.

2ـ وللتأكيد على ذلك فإن الله لم يفوض أحدا بما اختص الله به. فالله قد ينعم على بعض عباده بالعلم والقيادة والانجاز. لكن لابد وان تظهر عليهم هذه النعم والمواهب من خلال قيامهم بحل المشاكل وتهيئة الفرص. وعلى الناس ان يتعاملوا مع اصحاب المواهب بقدرها. لكن رحمة الله وهدايته وعونه لمن يحتاجه لا يمكن الحصول عليه الا مباشرة من الله سواءً من قبل المحتاج الى ذلك او من يشفع له بذلك. بمعنى ينبغي على العالم ان يدعو الله ان ينفع بعلمه غيره. فقد يحرص ان يعلم اناسا معينين لانهم اقاربه او من محبيه فلا يستطيع ان يفعل ذلك اذا لم ياذن الله بذلك. ان اي عمل غير عادي فلابد من طلبه من الله او اخذ الاذن بحدوثه منه. وهنا يجب التفريق بين ما يتنافع به الناس فيما بينهم وبين الاعمال الخارج عن هذا النطاق. فلا يمكن الحصول عليها ان من الله وذلك هو معنى العبادة. فان كان الله قد ربط تحقق ذلك برغة بعض البشر فانهم لن يعطوا غيرهم منها نقيرا. فخزائن هذه الامور عند الله وهو الذي يتولى اعطاءها من يريد. وعلى هذا الاساس فان على البشر ان يستخدموا ما اعطاهم الله من موارد ولا يركنوا على غيرهم واذا عجزوا فعليهم الاستعانة بالله. فان لم يفعلوا ذلك فلا يلومون الا انفسهم فلا يحاولون تدمير ما لدى الاخرين حسدا.

3ـ إن العلاقة بين الأجيال تتم من خلال انتقال المعلومات والتجارب بين جيل الى جيل. وقد هدى الله الناس الى آلية فعالة لذلك وهي آلية الأسرة بكل ما تقوم به من مهام تربوية واجتماعية وسياسية واقتصادية واي مهام اخرى. فأول اشارة من الله في هذا الخصوص هو عدم محاولة تقويض هذه العلاقة. فلا يمكن ان يتحل الدولة والمؤسسات الدينية والخيرية ولا اي مؤسسة اخرى بمهام هذه المؤسسة. ومن ثم فان على هذه المؤسسات ان لا تتدخل في عمل هذه المؤسسة، اي عمل مؤسسة الاسرة لاي سبب كان.

ان عملية تصحيح اي انحراف في عمل هذه المؤسسة يتم من داخلها. انها تقوم على الاحسان وليس المقايضة وليس اي شيء اخر. وقد خلق الله من عواطف الاحسان ودواعيه لدى افراد الاسرة اي الاب والام والابناء ما يخلقه في اي عمل مؤسسة اخرى. ويمكن القول ان كثيرا من المعاناة التي اصابت المجتمعات الحديثة هو محاولة البعض تقليص مهمام الاسرة لصالح مؤسسات اخرى لا تقدر على ذلك. يقول الله في سورة النحل: [وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا (23) وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا (24) رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِن تَكُونُواْ صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلأَوَّابِينَ غَفُورًا (25)]. اذا كانت العلاقة بين الاجيال منسجمة فان ذلك يسد بابا من أبواب الارهاب والذي يكون من اسبابه توتر العلاقات الاسرية.

4ـ يعاني العالم الحديث من مشكلة الفقر التي هي احد منابع الارهاب والتطرف. وعلى الرغم من الجهود الكبيرة التي يحاول المجتمع الدولي هزيمة هذه المشكلة فان النتائج متواضعة. وربما يرجع ذلك الى نفقات الحروب والى عدم اشراك الاسرة في ذلك الامر. وقد ترتب على ذلك تحمل تكاليف ادارية من ناحية والى عدم توافر الحوافز والمعلومات الضريبية. يقول الله تعالى في سورة الإسراء: [وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا (26) إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُواْ إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا (27) وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاء رَحْمَةٍ مِّن رَّبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُل لَّهُمْ قَوْلاً مَّيْسُورًا (28)]. فبهذه الكلمات البسيطة فقد تم تحديد المشكلة واسبابها والطرق الفعالة لعلاجها. ومن يشك في ذلك فما عليه الا المقارنة.

5ـ كذلك فان من اسباب الفقر هو تبذير الموارد والذي يتم بعدد من الطرق والوسائل. ومن ذلك عدم ايجاد قواعد سليمة تعدد العلاقة بين القطاع الخاص والحكومي، اي مشكل الضرائب والدعومات وتحديد العلاقة بين العمل ورأس المال أي المرتبات والاجور وتحديد العلاقة بين الشركات الصغيرة والكبيرة وبين الدول الغنية والفقيرة. وكل ذلك حدده القرآن بشكل واضح وبسيط. يقول الله تعالى في سورة الإسراء: [وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُورًا (29) إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاء وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (30)]. فمن يكون غنيا اليوم فقد يكون فقيرا غدا. ومن ثم فانه لابد من اخذ التطورات المستقبلية عند اتخاذ الخطط او القرارات الاقتصادية سواء من قبل الاسرة او الشركات او الدول.

6ـ ولعل من اهم ذلك الاخذ بعين الاعتبار مصالح الاجيال القادمة. وتتمثل المشكلة هنا في الوقت الحاضر فيما اطلق عليه التنمية المستدامة وهو الاخذ بعين الاعتبار الموارد المحدودة ونصيب الاجيال القادمة منها، ومن ذلك مشكلة المناخ. ليس الامر كذلك، لكن الاهتمام بمشاكل الاجيال القادمة، فلا ينبغي ان نحل مشاكلنا دون الاكتراث بالاجيال القادمة. ولعل من اهم ذلك هو توفير السلام لهم والحد من اسباب النزعات وتحميلهم مسؤولية النزاعات الحالية، فهم الذين يقتلون، وهم الذين يتحملون اعباء الحروب والتي يشعلها آباؤهم لمصالح تخصهم. يقول الله تعالى في سورة الإسراء: [وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْءًا كَبِيرًا (31) وَلاَ تَقْرَبُواْ الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاء سَبِيلاً (32) وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلاَ يُسْرِف فِّي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا (33)].
ان النفس البشرية هي اهم مورد ويجب الحفاظ عليها، وما شرعت القوانين الا لذلك، وما وجدت الحكومات الا لذلك، وما اعدت الجيوش الا لذلك.

7ـ ولابد من حفظ المال وخصوصا المال العام واموال الضعفاء حتى لا يتحولون الى عالة على الجتمع ان تم التساهل مع من يستولي على اموال هؤلاء بدون حق. يقول الله تعالى في سورة الإسراء: [وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً (34)]. وكذلك ترتيب العلاقة بين اصحاب رؤس الاموال ومن يديرها من الموظفين من خلال قوانين الشركات والعقود وغير ذلك من المتطلبات.

8ـ يدخل في هذا العقود وقوانين التجارة والتبادل والتوصيف الوظيفي والمساوة في الحقوق والواجبات... وغير ذلك من الامور التي تؤرق العالم في الوقت الحاضر بسبب العولمة والانفتاح. يقول الله تعالى في سورة الإسراء: [وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُواْ بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً (35)].

9ـ وما تستجد من امور جديدة فانه لابد من الحوار حولها وفقا لقواعد العدل والمعروف. يقول الله تعالى في سورة الإسراء: [وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً (36) وَلاَ تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الأَرْضَ وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً (37)]. فما من انسان الا هو يعيش في اطار مجتمع مكون من عدد من الاسر، وما من دولة الا وهي تعيش ضمن مجموعة من الدول. ولذلك فانه لابد من التنازلات المتبادلة. فان اصر كل طرف على ما يريد فان الطرف سيفعل الشيء ذات وفي نهاية الامر يخسر الجميع.

10ـ وفي حال تناقض الآراء والمصالح فانه لابد من التحكيم لتوزن بين الحقوق التي تبدو متعارضة. يقول الله تعالى في سورة الإسراء: [كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِندَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا (38)].

11ـ [ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلاَ تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَّدْحُورًا (39)]. على كل منصف ان يقارن بين هذه التوجيهات وما يحتاجه البشر وبين ما ابدعه عقول البشر. فهل يعقل ان ذلك كان من ابداعات محمد، صلى الله عليه وسلم، الذي كان يعيش بين امة جاهلة بكل ما تعنيه الكلمة من معنى. لاشك ان ذلك صادر من الله. وما كان من الله فانه افضل مما يصدر من البشر.

12ـ اذا كان القرآن يستطيع ان يصلح العالم من خلال نظامه العادل الذي لا يفرق بين عبد من عباده واخر، فلماذا لا يصلح العرب الذين يدعون انهم امة واحدة وهم يتناحرون فيما بينهم؟

ان الخطأ ليس في القرآن، لكن فيهم حكمة بالغة فما تغني النذر. عندما يكونون راغبين في الحل فان الحل بين ايديهم، اي خسران واي ضلال اكبر من هذا؟ لعمري انه الخسران والضلال المبين.. نسأل الله ان يهديهم، انه على كل شيء قدير.

اقـــــرأ أيضاُ للدكتور: