تعرف على المدينة التي دشنت طباعة الكتب في العالم

تمثل ورشة "أنتيكا ستامبريا أرمينا" في مدينة البندقية الإيطالية، أحد أحلام حياة باولو أولبي، الذي يعمل في مجال تجليد الكتب وصنع الورق.

فلهذه الورشة التقليدية، الكائنة في قصر يعود للقرن الثامن عشر وتمتلكه الآن جمعية "الآباء المخيتاريين" التابعة لطائفة الأرمن الكاثوليك، هدف طموح. إذ يأمل أولبي أن يعيد من خلالها إلى البندقية مجدها الغابر في مجال الطباعة، بفضل ما تحتوي عليه الورشة - التي يعني اسمها حرفيا "المطبعة الأرمنية القديمة" - من مكابس للطباعة وغرفة للتجليد، ومساحة مخصصة لتدريب جيل جديد من العاملين في هذا المجال.

فعلى الرغم من أنه يُشار إلى ألمانيا غالبا على أنها مهد الطباعة في العالم، في ضوء أن يوهان غوتنبرغ اخترع هناك أسلوب الطباعة بالحروف المتحركة في منتصف القرن الخامس عشر؛ فإن جمهورية البندقية كانت صاحبة الفضل في إعطاء هذه الصناعة الدفعة الأكبر.

وتقول فيديريكا بينيديتي، التي تعمل في إحدى أقدم المكتبات العامة بإيطاليا، إن سمات وخصائص البندقية أدت إلى حدوث "تطور استثنائي" في هذا المجال، منذ أن وصل إلى تلك البقعة من العالم في عام 1469.

وأوضحت أن هذه المدينة الساحلية كانت تشكل "القوة البحرية الرئيسية في البحر المتوسط، باعتبار أنها مثلت مركز شبكة كثيفة للعلاقات التجارية مع القوى الأوروبية وغير الأوروبية الكبرى. وجلب إليها التجار والصنّاع المهرة رؤوس الأموال والابتكارات التكنولوجية".

وفي ظل توافر المواد الخام وظروف التبادل التجاري المواتية؛ تمتعت البندقية بوضع مثالي فيما يتعلق بقدرتها على تلبية حجم الطلب المرتفع على المواد المطبوعة، سواء من باقي أنحاء أوروبا أو من مناطق أخرى في العالم.

لكن هيمنة المدينة على حركة التجارة في ذلك الوقت، لم تكن العامل الوحيد الذي أدى لازدهار صناعة الطباعة فيها. فحسبما تقول بينيديتي كان "عالم التبادل التجاري والصنّاع المهرة في البندقية يتسمان بطابع حيوي للغاية ومنفتح بشدة على الإبداعات الجديدة".

فقد كانت "سارانسيما" - كما عُرِفَتْ جمهورية البندقية في ذلك الوقت - مدينة ذات طابع عالمي، بل وإحدى أغنى مدن أوروبا حينذاك. وشكلت أيضا بقعة بلغت من الأهمية والنفوذ قدرا، جعلها تستعصي على الخضوع لنفوذ أو رقابة روما والكنيسة الكاثوليكية في أغلب الأحيان. بجانب هذا وذاك، وفرت البندقية تربة خصبة لإحداث قفزة في الصناعة التي دُشِنَت بفعل اختراع غوتنبرغ.

ويقول أولبي: "جاء العاملون في مجال الطباعة إلى هنا، لأننا كنا ننعم بحرية الصحافة. فالبندقية كانت جمهورية وليست `سينيورية`"، وهو الاسم الذي كان يُطلق على حكومات مٌعلنة بحكم الأمر الواقع في مدن إيطالية خلال القرون الوسطى وعصر النهضة، وكانت تخضع لسلطة سيد إقطاعي.

ومن بين الشخصيات التي عملت في هذا المجال؛ ألدوس مانوتسيوس، عالم الإنسانيات والباحث في كلاسيكيات الأدب الإغريقي واللاتيني. وُلِدَ هذا الرجل في بلدة غير بعيدة عن روما، وانتقل للعيش في البندقية عام 1490. ومثله مثل الباحثين والفنانين والمثقفين الآخرين، اجتذبته الحرية النسبية التي كانت تسود هذه المدينة، وألهمته مقومات النهضة الفكرية المتوافرة فيها، بعيدا عن القبضة الصارمة للكنيسة.

هناك أنشأ دارا للطباعة، طبع فيها خلال عام 1495 باكورة كتبه، الذي أعقبه عدد من النصوص الأخرى. جاء ذلك حسبما قالت بينيديتي، في إطار مشروع طموح تبناه مانوتسيوس لطبع كتب تعليمية تهدف لنشر كلاسيكيات الثقافة الإغريقية واللاتينية، وحمايتها كذلك.

وفضلا عما تمتع به من ثقافة، كان ألدوس مانوتسيوس صاحب رؤية مختلفة كذلك، إذ أصبح رائدا في طباعة كتبه الكلاسيكية بحجم صغير يسهل حمله. وكانت هذه الكتب - الأشبه بكتب الجيب المعروفة حاليا - تُباع بأسعار في المتناول.

يؤسس أولبي من خلال ورشته للطباعة مركزا ثقافيا يكرسه لمختلف الفنون المتصلة بطبع الكتب
يؤسس أولبي من خلال ورشته للطباعة مركزا ثقافيا يكرسه لمختلف الفنون المتصلة بطبع الكتب

ويصف أولبي مانوتسيوس بأنه "كان رجلا رائدا للغاية. ورغم أن ما فعله يبدو لنا الآن بلا قيمة، فإنه شكلّ تطورا كبيرا بالنسبة للحقبة التي كانت تُستخدم فيها، كتب ضخمة للغاية وثقيلة بشدة".

ومثّل تغيير التفاصيل الجمالية للطباعة، إنجازا آخر لهذا الرجل. فبينما واصل غالبية رفاقه في مجال طبع الكتب ونشرها، استخدام النمط التقليدي للحروف المطبوعة، الذي ابتكره غوتنبرغ، استحدثت دار النشر التي أسسها ألدوس مانوتسيوس وحملت اسم "أولداين"، نمطا آخر نُسِبَ إليها وأُطْلِقَ عليه اسم "أولداينو" تُكتب فيه الحروف بشكل مائل.

ويعود الفضل في هذا الابتكار إلى فرانشيكو غريفو، الذي كان يعمل مع مانوتسيوس. ويُعرف هذا النمط حاليا على نطاق واسع باسم "إيتاليك"، نظرا لأنه اخْتُرِعَ في إيطاليا وعلى يد رجل إيطالي.

ويعقب أولبي على ذلك بالقول إن مانوتسيوس أراد "شيئا أكثر رشاقة وخفة وأقل صرامة. إذا أعتقد أنه سيصبح من الأسهل قراءة الكلاسيكيات الإغريقية واليونانية، إذا كُتِبَت بخط ذي طابع أكثر حداثة".

بجانب ذلك، أدرك مانوتسيوس أن الكتابة بهذا النمط من الحروف، ستؤدي إلى شغل مساحة أقل من الصفحة، مقارنة بتلك التي تشغلها الكلمات المطبوعة باستخدام الحروف التقليدية الأكثر سُمكا، التي ابتكرها غوتنبرغ. وقد قاد ذلك - جنبا إلى جنب مع ابتكار الحجم الأصغر من الكتب - إلى جعل المطبوعات في متناول العامة بشكل أوسع نطاقا.

وتوضح بينيديتي: "كانت الكتب التي طُبِعَتْ بهذا الحجم واسْتُخْدِمَ فيها النمط المائل من الحروف المطبوعة أرخص ثمنا وأسهل في الحمل والتعامل معها والنقل كذلك، وقد شجعت على القراءة في أوساط، تختلف عن دوائر الخاصة والصفوة، كما وسعت مجالات الاطلاع أمام القراء".

ومن هذا المنطلق، صار بوسع الكثيرين من المنتمين للطبقة المتوسطة شراء الكتب، بعدما كان ذلك مقصورا على قلة مختارة من الأرستقراطيين ورجال الدين.

لكن الموقع الريادي الذي تبوأه ألدوس مانوتسيوس ودار "أولداين" التي أسسها في مجال الطباعة، لم يعن أنهما كانا وحدهما على صعيد وضع دعائم المشهد المزدهر لهذا المجال في البندقية. فوفقا لبينيديتي، ترسخت في المدينة أقدام أسر تخصصت في مجال طباعة الكتب، ما حوّلها في القرنين الخامس عشر والسادس عشر إلى كبرى المدن الإيطالية على هذا الصعيد، إلى حد أن حصتها من إجمالي المطبوعات التي صدرت في إيطاليا حينذاك، تراوحت ما بين 48.6 في المئة و54 في المئة.

وفي القرن السادس عشر، شارف عدد العاملين في مجال الطباعة في البندقية 250، وهو ما أسفر عن طبع 25 ألف كتاب، وجعل البندقية العاصمة الفعلية لعالم النشر في أوروبا بأسرها.

وشكّل ذلك بالنسبة للباحثين والمحررين والكُتّاب والمترجمين فرصة مضمونة للربح المادي، ليصبح بمقدور الكثير منهم كسب قوت يومهم والحصول على أموال تكفي لتلبية احتياجاتهم المعيشية، اعتمادا على إحدى هذه الحرف وحدها دون الاضطرار للعمل بجانب ذلك في أي مهنة أخرى.

وتوضح بينيديتي هذا بالقول إن "تزايد أنشطة الطباعة في البندقية اجتذب الكثير من المثقفين، نظرا لأنه وفر لهم فرص عمل مضمونة وثابتة. ففي الفترة بين عاميْ 1530 و1560، عَمِلَ كثير من الباحثين في هذا المجال هناك، وأتوا ليس من مناطق أخرى في إيطاليا فحسب، بل ومن خارج هذا البلد أيضا".

وأدى التنوع الذي اصطبغت به التركيبة السكانية للمدينة، بوصفها مركزا تجاريا اجتذب مهاجرين من دول عديدة، إلى أن تُطبع فيها كتب بلغات متنوعة. فإلى جانب اليونانية، ظهرت كتب بلغات من بينها: الألمانية والعبرية والعربية والأرمنية بالإضافة إلى الغلاغوليتسية (وهي أقدم أبجدية سلافية معروفة).

وكان الأرمن من بين أكثر المجموعات السكانية المقيمة في البندقية نشاطا في مجال الطباعة، بل ولعبوا دورا فعالا في تطوير هذا المجال في المدينة. ويعود ذلك بشكل كبير إلى الآباء الأرمن المخيتاريين، الذين أصبح الدير التابع لهم على جزيرة سان لازارو، مقرا لأحد أهم دور الطبع والنشر في البندقية.

لذا فمن الملائم تماما أن تقرر هذه الطائفة ذاتها دعم جهود إحياء تلك الصناعة التقليدية في بندقية العصر الحديث، من خلال الترحيب بـ "أولبي" وورشته، في القصر المملوك لهم في المدينة.

ويعد أولبي، البالغ من العمر حاليا 81 عاما، أحد أشهر العاملين في مجال تجليد الكتب في البندقية، والوحيد الذي يمتلك دارا للطباعة من بينهم. فقد قضى نصف قرن من عمره، منخرطا في أنشطة وأعمال ذات صلة بالورق، مثل تصنيع دفاتر بحجم الكف، وإعداد ألبومات للصور من الجلد المنقوش. وطيلة هذه الفترة امتلك عددا من المتاجر، أحدها لا يزال يفتح أبوابه حتى اليوم.

كما عكف أولبي على تدريب قرابة مئة شخص من مُجلّدي الكتب، في مسعى للإبقاء على صناعة طبع الكتب ذات التاريخ الطويل بين جنبات هذه المدينة.

وقد شعر أولبي بسعادة غامرة عندما دعته آنّا سكوفاكريكي، وهي إحدى تلميذاته لحضور نسخة العام الماضي من معرض يُقام لأفضل نماذج الحرف اليدوية في أوروبا. لكن تفقد أولبي للمعروضات الرائعة التي كانت موجودة هناك، جعله يشعر بالاستياء والهلع، إزاء ما حل بمجال طباعة الكتب في البندقية.

وقال في هذا الشأن: "من غير المعقول أن تصبح مدينة مثل هذه على تلك الشاكلة الرديئة للغاية"، مشيرا إلى انتشار المتاجر التي تبيع الحلي زهيدة الثمن، في الأماكن التي كان يشغلها في السابق الحرفيون البارعون والصُنّاع المهرة. ويعتبر الرجل أنه وزملاؤه مسؤولون عما حل بالبندقية من تردٍ ثقافي.

ورغم أن أولبي ظل على الدوام يعمل من أجل إعادة البندقية لسابق عهدها في مجال طباعة الكتب، فإنه لم يشعر بأن ثمة فرصة حقيقية لتحقيق هذا الهدف، إلا بعدما حضر ذلك المعرض. وهكذا ومن خلال الورشة التي يملكها في المدينة، شيّد الرجل مركزا ثقافيا خصصه للفنون المرتبطة بطباعة الكتب. ويسعى من وراء ذلك إلى جذب الشبان المهتمين بهذه الحرفة، ونقل المهارات والمعارف المتصلة بها - والتي طالما مورست في أنحاء مختلفة من البندقية - إلى هذا الجيل الجديد.

وتقول سكوفاكريكي إنها أحبت الكتب على الدوام، وأن هذا يشمل حب رائحتها وملمسها والولع بالرسم عليها كذلك. وتعرب الفتاة عن دعمها لجهود أولبي قائلة: "باستطاعتنا كأجيال جديدة إنقاذ هذا الإرث المذهل، وأن نعيد الحياة للبندقية" في هذا المجال.

لكن طريق هذا الرجل لتحقيق هدفه لا يخلو من عقبات. فارتفاع منسوب المياه في المدينة، يؤدي في أغلب الأحيان لإشاعة الفوضى في الطابق الأرضي من الورشة. يُضاف إلى ذلك نقص التمويل اللازم لجهود التجديد والتحديث، ولدفع أجور الحرفيين والمتدربين، مقابل العمل الذي يقومون به.

لكن أولبي وتلميذته يشعران بالتفاؤل. فكل ما استطاعا تحقيقه، حدث بفضل إصرار ذلك الرجل وإيمانه بضرورة أن يعود فن طباعة الكتب الخاص بالبندقية، ليكون جزءا لا يتجزأ من المدينة نفسها، كما كان الحال عليه في عصر مانوتسيوس.

ويقول أولبي: "مهمتي نقل كل ما لديّ من معارف ومهارات بل وشغف إلى الجيل الجديد.. نحن نشكّل الآن آخر أحفاد مانوتسيوس" والممثلون الوحيدون له في الوقت الحاضر.