قصة السفينة الغارقة التي غيرت تاريخ جنوب أفريقيا

التقيت دكتور برونو ويرز في ساحة انتظار فندق دولفين بيتش بمدينة كيب تاون الجنوب أفريقية، وشققنا طريقنا بين الكثبان الرملية المتوجّة بالحشائش الخضراء حتى وصلنا إلى شاطئ خليج تيبل.
 
وقال ويرز، مشيرا إلى بقعة كثيرة الأمواج وسط البحر على بُعد 60 ميلا من الشاطئ: "أكاد أجزم بأن حطام السفينة في هذه البقعة، وأن مخيم الناجين مدفون وسط الكثبان الرملية خلفنا".
 
وفي 25 مارس/آذار عام 1647، قبل أن تؤسس شركة "الهند الشرقية" الهولندية مستعمرة كيب تاون شمال رأس الرجاء الصالح، تعثرت سفينة "نيو هارلم" في رمال خليج تيبل الضحل. ولحسن الحظ لم تسفر الحادثة عن وقوع خسائر في الأرواح، وانتُشلت الشحنة الثمينة التي كانت تنقلها السفينة من آسيا إلى هولندا، عبر جنوب أفريقيا.
 
ونقلت السفن الأخرى من الأسطول طاقم السفينة إلى هولندا، في حين بقي 62 منهم بالقرب من الخليج لحراسة البهارات والفلفل والأقمشة والخزف ريثما يأتي أسطول أكبر ليحملهم إلى أوطانهم بعد نحو عام.
 
ويقول جيرالد غروينوولد، من قسم التاريخ بجامعة جوهانسبرغ إنه لولا بقاء هؤلاء لكان تاريخ جنوب أفريقيا الاستعماري اتخذ منحى مختلفا تماما.
 
إذ أسهم بقاء هؤلاء الناجين في تحديد القوة الاستعمارية التي ستستوطن المنطقة والمكان الذي ستستقر فيه. إذ أقامت هولندا مستعمرة في مدينة كيب تاون، في حين يقول غروينوولد إن الإنجليز ركزوا على سانت هيلينا، كونها تمثل محطة للاستراحة في منتصف الطريق إلى آسيا. أما الفرنسيون فقد كانوا يتوقفون بين الحين والآخر عند خليج سالدانها، وأقاموا مستعمرة في جزيرة ريونيون.
 
وبعد أسابيع قليلة من وصول ويرز إلى جنوب أفريقيا، لشغل منصب محاضر في الآثار البحرية بجامعة كيب تاون، هاتفته إحدى المواطنات لتبلغ عن عثورها على حطام سفينة نيو هارلم.
 
وقد جاء ويرز إلى جنوب أفريقيا مدفوعا بآمال اكتشاف حطام سفن شركة الهند الشرقية الهولندية التي غرقت بالقرب من رأس الرجاء الصالح، وعلى رأسها سفينة نيو هارلم. فقد ظلت هذه السفن الغارقة لغزا حيّر الكثير من المؤرخين لسنوات طويلة.
 
وعندما رأى ويرز الحطام الخشبية أدرك على الفور أنها تعود إلى السفن التي غرقت في القرن التاسع عشر. لكن ويرز لم ييأس ودأب على التفتيش عن حطام سفينة نيو هارلم على الشاطئ، وبحث عن معلومات في دور المحفوظات في لاهاي وكيب تاون.
 
وقاده البحث إلى قصاصات من مستندات، منها سجل يوميات كان يحتفظ به ليندرت جانز من كبار التجار على السفينة وكان واحدا من الـ 62 رجلا الذين بقوا في مدينة كيب تاون بعد غرق السفينة. وتضمنت الأوراق تفاصيل دقيقة عن السنة التي أمضاها الناجون في مدينة كيب تاون، وبعض الأدلة المفيدة التي تساعده في الوصول إلى موقع حطام السفينة.
 
وبعد أن وصل الناجون إلى الشاطئ في عام 1647، كانت مهمة نقل الشحنة الثقيلة من البحر الهائج مهمة عسيرة دامت أسابيع عديدة وأسفرت عن مقتل واحد من الرجال، وأقام الناجون مخيما وسط الكثبان الرملية.
 
وقايض الناجون أمتعتهم مقابل المواشي واللحم من أفراد قبيلة خوي خوي، السكان الأصليين للمنطقة. ونجحوا في صيد السمك بالنهر المالح المجاور، واستطاعوا أن يصلوا إلى جزيرة روبين، حيث قضى نيلسون مانديلا عقوبة السجن، في قوارب صغيرة.
 
وتكشف الأوراق المأخوذة من سجل اليوميات عن طبيعة الحياة التي كان يعيشها هؤلاء الرجال والتحديات التي واجهوها والإنجازات التي حققوها. وكتب جانز: "في يوم السبت 15 يونيو/حزيران أطلق الطاقم الرصاص على وحيد قرن كان يصارع فيلا بالقرب من حصننا. وكان اللحم شهيا ووفيرا وساعد في تأمين احتياجاتنا من الطعام في وقت كنا نعاني فيه من نقص الغذاء. وبعد يوم واحد عادت قواربنا من جزيرة روبين محمّلة ب 200 طائر، أكثرهم بطاريق، وكذلك 800 بيضة."
 
وحاول جانز إقناع مجلس إدارة شركة الهند الشرقية الهولندية، الذين اشتهروا بحرصهم على المال، بأهمية إقامة مستعمرة في رأس الرجاء الصالح لتصبح محطة لتزويد السفن الهولندية بالمؤن.
 
إذ كانت الرحلة من آسيا وإليها تستغرق ثمانية أشهر، وكان التزود بالمؤن الطازجة أثناء الرحلة ضروريا لبقاء أفراد طواقم السفن الهولندية على قيد الحياة، في وقت كان مرض الإسقربوط وغيره من الأمراض يحصد أرواح الكثيرين.
 
وكانت سفن الهند الشرقية الهولندية تتوقف عند محطات عديدة في النصف الجنوبي للكرة الأرضية، مثل سانت هيلينا وموريشيوس وخليج تيبل، غير أن الشركة لم ترحب بإنشاء مستوطنة في أفريقيا خشية ارتفاع النفقات وخوفا من السكان الأصليين للمنطقة.
 
وبعد عودته إلى هولندا في عام 1648، كتب جانز وتاجر آخر خطابا موجزا لأعضاء مجلس الإدارة حول المزايا والأرباح التي ستعود على الشركة في حال أقامت حصنا وحديقة في محيط رأس الرجاء الصالح.
 
وأشارت الوثيقة إلى الموقع الاستراتيجي الرائع لرأس الرجاء الصالح، وأراضيه الخصبة وكثرة الأسماك والمواشي ووفرة المياه العذبة والأخشاب، وأكدت الوثيقة على أن السكان الأصليين مسالمين يأتون للمقايضة بكل مودة.
 
وشددت الوثيقة على أن إقامة المستعمرة لن يكون مكلفا، وأنكرت كل الإدعاءات التي راجت في هذا الوقت بأن السكان الأصليين يأكلون لحوم البشر، وذكر جانز أن حالات القتل التي وقعت في صفوف الهولنديين كان سببها الثأر، بعد ضبط بعض الهولنديين وهم يحاولون سرقة ماشية من السكان الأصليين.
 
وأشارت الوثيقة إلى أهمية تعيين قائد حكيم للمستعمرة الجديدة يعامل السكان الأصليين بأدب ويدفع مقابل جميع البضائع التي يشتريها منهم، ويحرص على ملء بطون بعضهم.
 
لكن في المقابل تولى هذا المنصب جان فان ريبيك المسؤول بشركة الهند الشرقية الهولندية الذي كان على متن إحدى السفن التي جمعت آخر الناجين من حادثة سفينة نيو هارلم في عام 1648، وأصبح أول قائد لمستعمرة رأس الرجاء الصالح. وحوّل ريبيك مسار الأمور في اتجاه مختلف تماما.
 
ويقول غروينوولد: "كان ريبيك ينظر من البداية لقبيلة خوي خوي نظرة سلبية، وكان يزدريهم ويسيء الظن بهم، وهذه العلاقة المتوترة بين الجانبين أدت إلى اشتعال أول حرب بين الهولنديين وقبيلة خوي خوي التي استمرت من عام 1658 إلى عام 1659.
 
ومن ثم أُحبطت الخطط التي رسمها جانز في الوثيقة لتأسيس قاعدة عسكرية مستقلة في رأس الرجاء الصالح، ولا سيما عندما أصدر فان ريبيك قرارا بالسماح للهولنديين بإقامة مزارع في المناطق النائية.
 
واستقر المواطنون الأوائل- الذين سُرّحوا من وظائفهم في شركة الهند الشرقية الهولندية لزراعة أراضي المستعمرة- بالقرب من مدينة كيب تاون. لكن مع زيادة أعداد المواطنين توسعت المستوطنة داخل المدينة. وفي عام 1658 استوردت شركة الهند الشرقية الهولندية أول مجموعة من العبيد، من غرب أفريقيا ثم من المناطق المجاورة للمحيط الهندي لتولي الأعمال الشاقة.
 
وتقول جين كاروثيرز، الأستاذة بجامعة جنوب أفريقيا، إن هذا التفاعل الاجتماعي والاقتصادي كرّس للنظام الاجتماعي والتمييز الطبقي على أساس العرق، والذي ازداد رسوخا في القرن العشرين.
 
ويقول ويرز إن العثور على حطام سفينة نيو هارلم سيعطينا لمحة عن أبرز المحطات في تاريخ جنوب أفريقيا في القرن السابع عشر. وفي عام 2015، تحولت هواية ويرز إلى مشروع، وجمع ويرز معلومات عن السفينة. وأشارت يوميات جانز إلى أن السفينة غرقت على بُعد 1.5 ميل من المكان الذي اختاره ريبيك لبناء حصنه.
 
وعثر ويرز على دليل آخر من كتاب يعود إلى عام 1652، ورد فيه أن البئر الذي حفره الناجون بالقرب من مخيمهم كان على عمق 60 قدما، اخترق طبقات الرمال أولا ثم الحجر الجيري ثم الرمال والأصداف ثم الطمي وأخيرا الرمال المخلوطة بالمياه". وقارن كيليستو موليل، أحد الطلبة في صف ويرز، هذه المعلومات مع مسح جيولوجي يعود للسبعينيات من القرن الماضي للتوصل إلى موقع مخيم الناجين وحطام السفينة القريب منه.
 
وفي عام 2016، تعاون ويرز مع عالم الجيولوجيا بيلي ستينكامب، للبحث في المنطقة التي حددها باستخدام جهاز قياس شدة المجال المغناطيسي للكشف عن المعادن. وأسفرت عمليات الحفر عن انتشال حطام سفينة تعود للقرن التاسع عشر.
 
لكن بعد التعمق في الحفر، عثر الفريق على جسم ضخم شبه دائري يرجح ويرز أنه جزء من أحد صواري السفينة أو عوارضها وعدد من المسامير المصنوعة يدويا التي قد تكون ضاربة في القدم. وعثروا أيضا على عقد مصنوع من النحاس، يرى ويرز أنه يخص شعب الخوي خوي، وربما تمت مقايضته ببضاعة من الناجين.
 
غير أن ويرز أوقف أعمال الحفر بعد أن تسبب الحفّار في كسر مسمار طوله متر إلى نصفين. وقد يتطلب الكشف عن آخر أسرار السفينة نيو هارلم إقامة سد إنضاب مؤقت وتصريف المياه من المنطقة. ويتطلع ويرز لانتشال مدفع حديدي وأربع مراس كانوا على متن السفينة الغارقة.
 
وبينما يدرك ويرز أن هذا الاكتشاف لا يزال بعيد المنال، فإنه يأمل أن تقود تقارير تحليل المعادن التي استخرجت من الموقع إلى بناء نصب تذكاري في موقع السفينة.
 
ولو عثر ويرز على المدفع والمراسي، سيقام متحف لعرض حطام السفينة. ويقول ويرز: "لا يوجد على وجه الأرض سفينة غارقة تركت تأثيرا يعادل تأثير سفينة نيو هارلم على بلد بأكمله."