تركيا تتعلّم الدرس الإيراني في التدخل الإقليمي

تركيا انتهجت سياسات خارجية تقارب السياسات الإيرانية، في دعم ميليشيات ذات بعد طائفي، وفي التدخلات العسكرية المباشرة في سوريا ثم في ليبيا، ما أثر سلبا على صورة تركيا ومكانتها عربيا ودوليا.

منذ سنوات أضحت السياسة الخارجية التركية تقارب السياسة الخارجية التي انتهجتها إيران منذ عقود، ولاسيّما لجهة التحول في تدخلاتها الخارجية، أو في مدّ نفوذها الإقليمي، من القوة الناعمة في تقديم نموذج التنمية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، إلى التدخل بالوسائل السياسية والعسكرية أيضا.

من المعلوم أن جاذبية تركيا في العقد الأول من هذا القرن الحادي والعشرين، انطلقت من نموذج الإسلام السياسي بالمقارنة مع إيران، لكنه لم يحمل بعدا رسوليا تدخّليا، يتعلق بتصدير الثورات، أو تصدير نموذج سياسي معيّن، ساهم في تحقيق تركيا إنجازات اقتصادية لافتة، ناهيك عن نجاحها في تقديم نموذج لإسلام سياسي ناضج، قادر على التكيف مع الواقع ومع العالم ومن ضمنه التكيف مع العلمانية والديمقراطية واعتبار جهاز الدولة ملكا للجميع. غير أن ذلك النموذج بدأ يتقهقر في السنوات الخمس الماضية، بانتهاج تركيا سياسات خارجية تقارب السياسات الإيرانية، في دعم ميليشيات ذات طابع طائفي معيّن، وفي التدخلات العسكرية المباشرة في سوريا بداية ثم في ليبيا، ما بات يؤثر سلبا على صورة تركيا ومكانتها عربيا ودوليا.

وإذا أخذنا مثال سوريا، فإن سياسة تركيا إزاء الصراع الجاري في البلد المذكور باتت مثار تساؤلات عديدة، فهي عبّرت منذ البداية عن مساندتها للثورة السورية، واحتضنت ملايين السوريين اللاجئين، ثم إنها باتت مقرا للمعارضة الرسمية، وحاضنة لعدد من فصائل المعارضة المسلحة، وهي أمور لا يمكن تجاهلها. بيد أن ذلك الوضع جعل تركيا واحدة من أهم الدول المتحكّمة في مسارات الثورة السورية، وفي تشكيل المعارضة الرسمية، ويأتي ضمن ذلك تركيز دعمها على مساري العسكرة والأسلمة، على كافة الأصعدة: أي الخطابات والكيانات وأشكال العمل، إلى الحدّ الذي يمكن معه التساؤل عن حدود أو عن مآلات المسارين المذكورين من دون ذلك الدعم، بالنسبة إلى أحوال السوريين، وسلامة مسار ثورتهم أو معارضتهم.

ثمّة أسئلة عديدة أثارتها السياسة التركية في تعاملها مع الصراع السوري، ومع ذلك فإن قيادة المعارضة السورية لم تتوقف مليّا لطرحها وأخذ إجابات عليها، أو أنها طرحتها على خجل، من دون السعي إلى إيجاد معادلات تخفف من تأثيراتها السلبية في الثورة والمعارضة؛ فضلا عن نشوء ظاهرة سورية، من سوريين يحابون سياسة الرئيس التركي أكثر من الأتراك أنفسهم، أو أكثر حتى من محازبيه مثلا، في ما يتعلق بالشأن السوري. وبكلام أكثر دقة، فإن المعارضة لم تكلّف نفسها مساءلة السياسة التركية، ومساءلة نفسها أيضا عن:

1ـ صواب المداخلات العسكرية التركية في سوريا، وسحب فصائل المعارضة المسلحة من حلب إلى عملية “درع الفرات” عام 2016، ما نجم عنه انهيار مواقع المعارضة في حلب وريفها، وفي ما يخص عمليتي غصن الزيتون في عفرين عام 2018، ونبع السلام في الشمال السوري عام 2019.

2ـ جدوى قيام تحالف أستانة الثلاثي ومسار أستانة التفاوضي عام 2017، مع شريكي النظام (إيران وروسيا)، فهل كان ذلك التحالف لمصلحة الثورة، أو لمصلحة الشعب السوري؟

3ـ طالما أن اتفاقيات “وقف التصعيد” كانت كارثية، وأدّت إلى انحسار مواقع المعارضة، وإلى معاودة النظام سيطرته على معظم المناطق، فلماذا استمرّت تركيا في تلك الاتفاقيات، التي أدّت إلى انهيار ثلاث مناطق من الأربع المشمولة في تلك الاتفاقيات، والتي وقفت عند حدود منطقة إدلب؟

4ـ لماذا لم يجرِ التعامل مع وضعية عفرين (2018) كما يجري التعامل مع وضعية إدلب (بوجود جبهة النصرة)؟ ثم هل أضعف ذلك جبهة النصرة أم زادها قوة في إدلب وريفها؟

5ـ هل الحل العسكري هو الأمثل لتفكيك نفوذ الـ”بي.كي.كي” (حزب العمال الكردستاني) وإضعافه؟ أو هل أن تعميق الجرح الكردي العربي، ونقل الطريقة التركية في معالجة المسألة الكردية في أراضيها يفيد في بناء إجماعات وطنية للسوريين؟

القصد من ذلك كله القول إن تركيا تشتغل وفقا لمصالحها، ولا تشتغل وفق مصالح الشعب السوري، وإن تلك السياسة تستحق المراجعة والنقد والمساءلة والترشيد، لمصلحة السوريين، ولمصلحة تركيا ذاتها، لذا فإن بعض الجرأة الأخلاقية والسياسية والمنطقية تقتضي ذلك، أي قول ما ينبغي قوله، ولاسيّما أن الشعب السوري الذي قدّم تلك التضحيات كلها يستحق ذلك.

وفي الإجمال فإن السياسة الإقليمية لتركيا تستوجب المراجعة، سواء في ما يتعلق بسوريا، أو في ما يتعلق بليبيا، وغيرهما، وبالتأكيد فإن تلك المراجعة يفترض أن تحث على الأخذ في الاعتبار مصلحة تركيا، ومصلحة الأمن والاستقرار والتعاون الدولي، وحل الخلافات بالوسائل السياسية والدبلوماسية.

*العرب ماجد كيالي/ كاتب سياسي فلسطيني