قصة المهندس "السري" الذي كان وراء تكنولوجيا الفضاء الروسية المبكرة

على الرغم من أن الاتحاد السوفيتي لم يمتلك الكثير من التكنولوجيا المتطورة التي وظفتها وكالة ناسا الفضائية في سباق الفضاء، إلا أنه استطاع أن يسبق الأمريكيين إلى الفضاء، فما هي أسباب ذلك؟

بعد أيام قليلة من عودة يوري غاغارين إلى الأرض، وقف إلى جوار الزعيم السوفيتي نيكيتا خروتشوف في الساحة الحمراء بموسكو، وكان في استقباله عشرات الآلاف الذين يهللون ابتهاجا بنجاحه. وكان الاحتفال بالإنجاز السوفيتي مهيبا وتلقائيا إلى حد كبير.

غير أن المهندس، الذي لولاه لما وصل أول بشري إلى الفضاء، كان غائبا تماما عن هذا المشهد. ولم يُكشف عن اسم كبير المصممين سيرجي بافلوفيتش كوروليوف إلا بعد وفاته. فقد كانت هوية هذا العبقري الذي أدى دورا محوريا في برنامج الفضاء الروسي سرا من الأسرار التي أحاطها الاتحاد السوفيتي بستار كثيف من الكتمان.

ولد كوروليوف في أوكرانيا وأشرف على تصميم صاروخ "آر 7"، الذي أطلق أول قمر صناعي وأول كلب وأول رجل وأول امرأة وأول بشري يمشي في الفضاء، إلى المدار حول الأرض. وطور هذا المهندس الكبسولات الفضائية وأنظمة المراقبة ووضع معايير وتدابير صارمة لضمان أن كل شخص يرسله إلى الفضاء سيعود إلى الأرض على قيد الحياة.

وكانت القيمة الدعائية لإنجازات كوروليوف كفيلة بأن تحفظ للاتحاد السوفيتي مكانته كقوة عظمى. لكن، على عكس نظيره الأمريكي الشهير فيرنر فون براون، كانت هوية كوروليوف تعد من المعلومات الثمينة التي آثر الاتحاد السوفيتي إخفاءها عن العالم.

وتقول كاثلين لويس، الأمينة بجناح برامج الفضاء الدولية في متحف سميثسونيان للطيران والفضاء بواشنطن العاصمة: "لم يحظ المهندسون والفنيون الذين شاركوا في تطوير المركبة الفضائية بالثناء الكافي، فقد كانوا الجنود المجهولين الذين لولاهم لما تحققت هذه الإنجازات. فالحفاظ على حياة البشر في الفضاء يتطلب طاقة وجهدا يفوقان التصور".

وتوصل أعضاء فريق كوروليوف إلى حلول هندسية رائعة للتحديات التي كانت تقف عائقا أمام إرسال البشر إلى الفضاء، وكانت هذه الحلول في الغالب مختلفة عن تلك التي اختارها نظراؤهم الأمريكيون.

فقد صُمم صاروخ "آر 7" على سبيل المثال، ليكون قاذفة باليستية عابرة للقارات. ويبلغ ارتفاع الصاروخ نحو 30 مترا، وكان مزودا بأربعة معززات للمرحلة الأولى على جانبي الصاروخ. وكان حجم الصاروخ يُحدد بحسب كتلة الرأس الحربي النووي الذي يحمله. ونظرا لأن الأسلحة النووية السوفيتية كانت أكبر وأثقل من نظيرتها الأمريكية، فقد كانت الصواريخ السوفيتية أقوى من الأمريكية. ومن ثم، في حالة إطلاق مركبات فضائية مأهولة، كانت المركبات الفضائية الروسية أكبر أيضا مقارنة بالأمريكية.

وتقول لويس: "على عكس الأمريكيين، لم يهتم السوفييت بهذه القفزات في التصغير التكنولوجي، أو تصنيع أجهزة وأدوات تكنولوجية مضغوطة، فقد طور الأمريكيون الترانزستور ليحل محل الصمامات المفرغة في الطائرات، لكن السوفييت ظلوا يستخدمون الصمامات المفرغة في طائراتهم حتى منتصف الستينيات".

وقد بدا واضحا أن كبسولة "فوستوك" السوفيتية التي نقلت أول رجل ولاحقا أول امرأة إلى الفضاء لم تشبه مركبة "ميركيوري" الفضائية التي أطلقتها وكالة ناسا. إذ كانت كبسولة "ميركيوري" الفضائية مخروطية الشكل، التي كانت أكبر بالكاد من رائد الفضاء بداخلها، مزدحمة بالمحولات وأقراص التحكم والأذرع والأزرار. وكانت بمثابة أعجوبة في التصغير التكنولوجي والإلكترونيات المتطورة.

في حين أن مركبة "فوستوك" كانت تشبه قذيفة مدفع عملاقة مفرغة من الداخل ومبطنة، وكانت تتضمن جهاز راديو، يشبه راديو السيارة، مزود بمفتاح تلغراف لإرسال شفرة مورس تحسبا لانقطاع الاتصال، ولوحة عدادات واحدة. وفي داخل هذا الصندوق وُضع مجسم للكرة الأرضية، يتحكم في حركته كمبيوتر كهروميكانيكي تحركه عجلات وتروس، وكان يستدل به رائد الفضاء على موقعه على المدار الأرضي.

وكشفت أيضا الأجهزة المستخدمة في المركبتين الفضائيتين عن الاختلافات بين الدولتين. فبينما كانت مركبة "ميركيوري" الأمريكية مصممة ليقودها رواد الفضاء على متنها، فإن مركبة "فوستوك" كانت تدار آليا، وكان رواد الفضاء على متنها عليهم تأدية القليل من المهام.

ولم يكن بإمكان رواد الفضاء على متن مركبة "فوستوك" استخدام مفاتيح التحكم اليدوي إلا بعد إدخال شفرة سرية على لوحة مفاتيح. وكانت الشفرة توضع في ظرف مغلق أسفل المقعد ولا يفتحه رائد الفضاء إلا إذا تعطلت الأنظمة الآلية. وكان كوروليوف واحدا من بضعة أشخاص يهمسون الأرقام لغاغارين قبل الرحلة الفضائية.

وبفضل تصميمها الشبيه بالقذيفة، كانت إعادة دخول المركبة "فوستوك" إلى الغلاف الجوي أسهل نسبيا مقارنة بالمركبة "ميركيوري". فرواد الفضاء على متن المركبة "ميركيوري" كان عليهم توجيه الكبسولة بحذر حتى يحميهم الدرع الواقي من الحرارة، في حين أن كبسولة "فوستوك" كانت مغطاة بالكامل بمادة مقاومة للحرارة وكانت مزودة بثقل على القاعدة، ولهذا كانت موجهة نحو الاتجاه الصحيح.

لكن رواد الفضاء السوفييت واجهوا مشاكل عند الهبوط، فبينما كان الأمريكيون يخططون للهبوط في المحيط، فإن السوفييت كان من المفترض أن يهبطوا على اليابسة.

وتقول لويس: "لم تكن الكبسولة "فوستوك" مزودة بأنظمة لإبطاء سرعتها التي لا يمكن معها لأي شخص على متنها أن يبقى على قيد الحياة. ولهذا قفز يوري غاغارين على ارتفاع 20 ألف قدم وهبطت الكبسولة بعيدا عنه".

وتلافى فريق كوروليوف هذه المشكلة في المركبة الفضائية اللاحقة "فوسخود"، بتصميم نظام للهبوط السلس، تضمن مقاعد قذفية، ونظام يطلق المقعد قبل اصطدام الكبسولة بالأرض. واليوم تستخدم مركبة الفضاء "سويوز" تكنولوجيا مشابهة، رغم أن رواد الفضاء لا يزالون يشبهون عودة المركبة إلى الأرض باصطدام سيارتين بسرعة عالية.

وعلى الرغم من أن "فوسخود" لم تكن أكبر حجما من المركبة "فوستوك" الفضائية بما يكفي لتنافس المركبة الفضائية "جيمني" التي كانت تحمل رائدين فضاء أمريكيين، إلا أنها صممت لتسع أكثر من رائد فضاء، أو بالأحرى، ثلاثة رواد فضاء، منهم واحد من المهندسين الذين شاركوا في تصميمها.

وكان كوروليوف أول من اقترح فكرة وجود مهندسين على متن المركبة الفضائية، وتبنتها الولايات المتحدة في عصر المكوك الفضائي.

وقد شارك رائد الفضاء السوفيتي، ألكسندر ألكسندروف في بناء المركبة الفضائية "فوسخود" في مطلع الستينيات، ثم شارك لاحقا في قيادة المركبة الفضائية "سويوز" أثناء بعثتين فضائيتين إلى محطة الفضاء السوفيتية.

وعندما التقيته في موسكو منذ عامين شرح لي الأسباب وراء فكرة كوروليوف لاختيار رواد فضاء من قطاع الهندسة، بالقول: "إن هؤلاء المهندسين يمكنهم فهم آلية عمل الصاروخ وأسبابها، ويكتسبون الخبرة في قيادة المركبة الفضائية التي صمموها".

ورغم أن فكرة وجود مهندسين على متن المركبة الفضائية لاقت سخرية من البعض، إلا أن رحلتي "فوسخود" المأهولتين كللتا بالنجاح، وأرسل السوفييت ثلاثة رجال إلى الفضاء في عام 1964 وكان أليكسي ليونوف، وهو أول إنسان يمشي في الفضاء، واحدا من رواد الفضاء على متن مركبة "فوسخود-2" في عام 1965.

ولعل أكثر اختراعات كوروليوف صمودا هو الصاروخ "سويوز". ويكاد يكون الصاروخ الذي تستخدمه روسيا الآن لإطلاق الأقمار الصناعية مطابقا لصاروخ "آر 7"، الذي استُلهم منه البساطة في التصميم.

ولأن "سويوز" يتضمن خمسة محركات و20 غرفة احتراق و12 محركا صغيرا لتوجيه الصاروخ، فمن الضروري أن تُشغل جميع المحركات في نفس الوقت. ففي حالة الإخفاق في تشغيل واحد منها، قد يسقط منه الوقود ويتسبب في كارثة محتملة.

ولتحقيق هذا التزامن في التشغيل، استخدم المهندسون ما يشبه أعواد الثقاب العملاقة. فبمجرد وضع الصاروخ على منصة الإطلاق، يضع المهندسون دعامات خشبية، كل منها مزود بمشعلين كهربائيين داخل فوهات الصاروخ. وترتبط هذه الدعامات ببعضها بسلك نحاسي.

وقبيل إطلاق الصاروخ، يشتعل اللهب وينتشر عبر السلك الذي يعمل بمثابة جهاز استشعار للاحتراق، إذ يدل انفصال جميع الأسلاك على وجود شعلة في كل فوهة، ومن ثم يكون فتح الصمامات الدافعة آمنا. ويضمن النظام أن الوقود لن يُطلق من المحركات إلا إذا كانت الدعامات الخشبية العملاقة كلها مشتعلة.

وتحول منزل كوروليوف في موسكو، الذي وهبته إياه الحكومة السوفيتية في عام 1959، إلى متحف. ويمتلئ المكان بصور وتذكارات من برنامج الفضاء الذي أشرف عليه، مثل نماذج طائرات وصواريخ وصور لرواد الفضاء وكتب وأوراق فنية.

وتغطي أحد جدران منزله خريطة مفصلة لسطح القمر. فبالرغم من أن حلم كوروليوف بإرسال مواطن سوفيتي إلى سطح القمر لم يتحقق، إلا أن تصميماته لا تزال باقية في الصواريخ والطائرات والمحطات الفضائية اليوم. وبعد ستين عاما من دوران يوري غاغارين حول الأرض، فإن المهندس الذي أعطى إشارة البدء للسباق الفضائي يستحق أن يحتفى به على مستوى العالم.