بعد الانسحاب الأميركي.. سطوة ميليشيات "تهدد" الدولة العراقية

بالتزامن مع انسحاب القوات الأميركية من أفغانستان في سبتمبر المقبل، ستنسحب قوات أخرى من العراق أيضا في جدول زمني متقارب، وهو ما يثير القلق من محاولة ميليشيات مسلحة السيطرة على مرافق الدولة العراقية.

وبدلا من عدة قواعد كانت القوات الأميركية تنتشر فيها على طول البلاد، لم يبق للجيش الأميركي سوى قاعدة عين الأسد في الأنبار، ووجود قليل في العاصمة بغداد، وآخر في أربيل، عاصمة إقليم كردستان العراق.

وفي أفغانستان تحاول الجماعات المسلحة التابعة لطالبان السيطرة على مساحات أكبر في البلاد، وتستهدف من أجل ذلك الحكومة والجيش لإضعاف الدولة، وتثبيت سيطرة المتطرفين.

وخوفا من تكرار النموذج الأفغاني في العراق، يقول محللون وسياسيون عراقيون إن سيطرة جهات عراقية مسلحة على الدولة وربما فرض نموذج لا يعترف بالدستور العراقي والقوانين الموجودة حاليا هو "أمر وارد جدا".

ويقول الضابط في الجيش العراقي السابق، عثمان الدليمي، إن "ميزان القوى يميل لصالح الجماعات المسلحة في العراق، التي نجحت بتطويع قيادات القوات الأمنية واستغلال الفساد في مرافق الدولة لصالحها".

ويضيف الدليمي لموقع "الحرة" أن "من الوارد جدا أن تحاول الجماعات المسلحة العمل على إسقاط شكل النظام القائم في البلاد وإعلان نظام خاص بها، وفي هذه الحالة قد تنهار القوات المسلحة العراقية الضخمة أمام تلك الجماعات بسبب تضارب الولاءات والفساد".

وبحسب الدليمي فإن "الدولة في العراق تشبه بناء هائلا من القش، يساعد حجمه الكبير على انهياره بسبب ضعف أساساته ونخرها".

ويقول المحلل السياسي العراقي، بهاء الخير الله، إن الجماعات المسلحة العراقية المدعومة من إيران تخطط أساسا لجعل العراق دولة هامشية تقاد من قبل طهران.

وبحسب خير الله فإن "الجزء الأكبر من هذا المخطط تحقق بالفعل، إذ تمتلك الجماعات المسلحة نفوذا هائلا على البرلمان والقضاء والقوات المسلحة والحكومة نفسها".

نفوذ يتضاعف

وتضاعف نفوذ الجماعات المسلحة، التي ترتبط أجنحة منها بهيئة الحشد الشعبي التابعة نظريا للحكومة العراقية، إلى درجة أنها تمكنت من إطلاق سراح القيادي فيها، قاسم مصلح، بعد أسبوعين من اعتقاله من قبل أجهزة الاستخبارات بتهم تتعلق بالإرهاب.

وقال مصدر رسمي عراقي لموقع "الحرة" وقتها إن "القضاء تعرض لضغوط" لإطلاق سراح مصلح، على الرغم من أن الحكومة كانت تريد استمرار اعتقاله ومحاكمته.

ويقول الباحث العراقي، ريناد منصور، من مركز "تشاتام هاوس" للأبحاث لوكالة فرانس برس إن الحشد "ليس حالة شاذة، بل هو مقياس لسلوك السلطة في العراق".

ويشرح منصور أن "أهداف الحشد هي نفسها أهداف جميع الأحزاب السياسية في العراق، وهي أن يصبح القوة السياسية الأولى في نظام يسمح، في ظلّ غياب سيادة القانون الحقيقية، بالوصول إلى السلطة بدون أن يكون عرضة للمحاسبة أمام الشعب أو المؤسسات".

لكن الحشد، على الرغم من تشاركه في الهدف مع باقي الأحزاب السياسية، فهو أيضا يتميز عليها بامتلاكه قوة هائلة وتأثيرا شعبيا كبيرا.

ويقول الباحث العراقي في شؤون الجماعات المسلحة، ضرار العزاوي، إن "الحشد يشبه طالبان في هذه التفصيلة، فهو يمتلك أموالا هائلة ناتجة عن نشاطات غير شرعية، ويمتلك قوة كبيرة ومسلحين كثر، كما إنه متغلغل في النسيج الاجتماعي العراقي بسبب ما ينسجه عن بطولاته ودوره إبان فترة محاربة داعش".

ويضيف العزاوي لموقع "الحرة" بالقول إن "الحشد استغل حتى صور قتلاه في المعارك لتعويد الناس على رؤيته كجسم مقدس لا يجوز المساس به".

في المقابل، لا يرى الصحفي العراقي، علي الفرطوسي، أن الاتهامات الموجهة للحشد واقعية، ويقول إن "الحشد مؤسسة أمنية رسمية عراقية، ومقارنتها بجماعة متمردة تحمل أفكارا إرهابية غير ممكن".

ويضيف الفرطوسي قوله: "في هذه الحالة سيسمى الموضوع انقلابا عسكريا، لأن الحشد مؤسسة عسكرية، وليس إسقاطا منظما للنظام كما تحاول طالبان أن تفعل".

وشدد على أن "هناك حالة تخوف مبالغ بها من الحشد الشعبي، في حين إنه يعتمد على وجود الدولة، وعلى مقبوليته الشعبية بشكل كامل ولا يمكن أن يهددهما".

ويتواجد عناصر الحشد في جميع مفاصل القوات الأمنية، وفق ما يقول مسؤول عراقي كبير لفرانس برس، لدرجة أنهم "لم يعودوا يخشون" تلك القوات.

ويضيف الضابط الذي طلب عدم الكشف عن هويته لحساسية المسألة "الفصائل المسلحة المنضوية تحت الحشد تعمل على تفكيك ما تبقى من الجيش من أجل إضعافه وتفتيته"، و"لكن لا يزال هناك عدد قليل من القادة المخلصين الذين يحاولون الصمود في وجه هذه المحاولات".

وفي الحقيقة، يمتلك الحشد نفوذا كبيرا إلى درجة أن الفصائل التابعة له كررت استفزازها وتحديها لرئيس الوزراء، مصطفى الكاظمي، القائد العام للقوات المسلحة وقائد الحشد – نظريا – بدون أن تستطيع الحكومة الرد.

وكاد اعتقال القيادي في الحشد، قاسم مصلح، أن يؤدي إلى أزمة كبيرة، قبل أن تتراجع القوات الحكومية وقوات الحشد عن المواجهة.

وفي يومها أعلن إعلام الحشد أن "الفتنة قد وئدت"، ليخرج مصلح من سجنه وهو يتحدث عن "مؤامرة" ضد قيادات الحشد، ويتم استقباله استقبال المنتصرين في كربلاء، حيث قُتل الناشط، إيهاب الوزني، الذي اعتقل مصلح للاشتباه بكونه من أمر بقتله مع ناشطين آخرين، وهي تهمة ينفيها مصلح.

لكن هذا لا يأتي بدون مقابل، بحسب الضابط، الذي يقول إن "ما يفعله الحشد يأكل من تأييد الشعب له، وهناك كثيرون يرفضون ما يفعله المسلحون".

ونتيجة لهذا، "لم تعد القاعدة الشعبية للحشد التي حلّ بفضلها في المركز الثاني في البرلمان بعد تشكيله أول قائمة انتخابية في الانتخابات التشريعية لعام 2018، هي طريقه إلى السلطة والنفوذ"، كما يقول تقرير لفرانس برس.

وينقل التقرير عن مصادر وصفها بالمطلعة توقعات عن انخفاض شعبية الحشد بسبب الاتهامات للفصائل التابعة له بقتل المتظاهرين في تظاهرات أكتوبر في في العراق

وقدرت تلك المصادر أن نتيجة الحشد في الانتخابات المقبلة المقررة في أكتوبر "ستكون أسوأ من المرة السابقة". إذ يأتي الاستحقاق بعد "ثورة" أكتوبر 2019 حينما تظاهر مئات الآلاف من العراقيين أشهراً في الشوارع ضد النظام، فيما يتهمّ المتظاهرون الفصائل المنضوية في الحشد بالمسؤولية عن "اغتيالات" طالت ناشطين شاركوا في هذه الحركة الاحتجاجية وعن القمع الدموي الذي ووجهت به وأودى بحياة 600 شخص.

من جهة أخرى، يقول خبراء عسكريون عراقيون إن "البلاد ما تزال تتمتع بقادة يمكنهم أن يواجهوا نفوذ الجماعات المسلحة".

ويقول ضابط في الجيش العراقي الحالي إن "ميزان القوى العسكرية يميل بشكل واضح لقوى الدولة، ومن الممكن تطهير القوات المسلحة من نفوذ الجماعات الدخيلة باستخدام الاستخبارات".

ويعتقد الضابط الذي طلب من موقع "الحرة" عدم كشف اسمه إن "المشكلة الحقيقية هي في اتخاذ قرار، وفي المحافظة على هذا القرار ودعم القوات المسلحة واستعادة هيبة الدولة".

ويضيف الضابط "لا يمكن مقارنة القوات العراقية بقوات أفغانستان، تجربة الموصل جعلت قوات الجيش أكثر صلابة بكثير، كما إن العسكريين العراقيين معتدون بنفسهم جدا ولن يقبلوا بحلهم".

ويقول المحلل السياسي العراقي مرتضى سليم إن "الحشد مشارك في السلطة بشكل كبير أساسا، وهو بهذا يختلف عن طالبان التي تعتبر مجموعة متمردة".

ويضيف سليم لموقع "الحرة" إن "المكاسب التي ينالها الحشد هائلة من استمرار الوضع الحالي، كما إن مسؤوليته العلنية عن تدهور الأوضاع محدودة، والسيطرة على السلطة بشكل مباشر ليست من مصلحته ولا من مصلحة داعميه".

وبحسب سليم فإن "من المهم الإبقاء على شكل الدولة وقشرتها، حتى تستطيع الجماعات المسلحة امتصاص اللب بحرية"، مضيفا "كما إن علينا أن لا ننسى وجود الصدر، الذي يمتلك موارد مالية هائلة، ومركزية تفتقدها قوات الحشد المكونة من فصائل صغيرة، وقبول شعبي أكبر نسبيا".