يحمل صور الرؤساء لعقود من الزمن وما زال متعاقدا في النظافة..

تمام الساعة العاشرة صباحاً كان الوقت في العاصمة صنعاء، عندما تلقيت اتصالا هاتفيا من إدارة وكالة "خبر"للأنباء يستفسرون فيه عن مدى معرفتي بـ "صاحب السيارة اللي معلق صور القادة والرؤساء والثوار اليمنيين، ويمشي في شوارع العاصمة فاتح أغاني وطنية ويشارك في حملات التوعية البيئية؟ فكانت إجابتي: نعم، أشاهده أحياناً. أمسك بطرف الحديث: نريد موضوعاً عنه. رغم أني لا أعرف منزله ولا حتى رقم هاتفه، رحبت بالفكرة: تمام..على طول.

ظللت أقلب في ذاكرتي عن آخر مكان وجدته فيه أو عن شخص بإمكانه أن يدلني عليه، تسارعت الصفحات أمامي ولم أجد إلا أحد زملاء المهنة الذي نسميه "الموسوعة" أو "أبو ولد" - نسبة إلى بسكويت أبو ولد الذي يعتبر من أقدم منتجات مجموعة هائل سعيد الذي ما زال محافظا على شهرته- ذاكرته قوية ويعرف أشخاصاً كثر لا يخطروا على البال، سارعت للاتصال به، فدلني مباشرة: اسمه خالد الحورش يقطن في التحرير خلف البنك المركزي وستجد سيارته واقفة أمام منزله.

على الفور اتجهت إلى المكان وجدت السيارة كما أخبرني صديقي واقفة أمام المنزل، مسجل عليها رقم الهاتف الجوال، دونته في "النوتة" ومباشرة هاتفته وطلبت منه تحديد موعد لإجراء حوار معه، لم يتردد على الإطلاق ووافق مباشرة.
ابتسامة معاناة من شقيق الشهيد

كنت أتخيل أن من سأقابله بناءً على نبرة صوته في الهاتف، شاب في منتصف عمره، لكني عند رؤيته وجدت كهلاً بسيطاً، يبلغ من العمر 65 عاماً كما أخبرني، عوامل الزمن نقشت معالمها على وجهه، عاصر الإمام أحمد وعرفه شخصياً، ورؤساء ما بعد ثورة سبتمبر، وزنه الثقيل وخطاه البطيئة وتنفسه السريع توحي بمعاناة كانت وما تزال تكتنف الرجل، إلا أن الابتسامة لا تفارق محياه أمام الصغير والكبير، لذلك "الناس يقدرونا جميعاً تقديراً كبيراً".

بعد التعارف وتبادل كلمات الإطراء اتجهت بمعيته إلى مكان هادئ بعيدا عن منزله الذي لم يرد لنا أن نجري الحوار بداخله لا أدري لماذا، حتى أنه اعتذر عن الدخول لتصويره بداخله إلى جانب ما يحمله من صور، ووعد بتحديد موعد آخر لأخذ الصور، بادرته بسؤال عن هويته، فقال: "أنا خالد حسن أحمد الحورش، شقيق الشهيد أحمد الحورش، الذي أعدمه الإمام أحمد حميد الدين (حكم اليمن خلال الفترة 1948-1962) رغم أنه أحد مدرسيه، متزوج ولي أربعة أولاد وأعمل في أمانة العاصمة قطاع النظافة".

يبدأ خالد الحورش، الثاني من بين ثلاثة أخوة من مواليد صنعاء وتعود أصوله إلى مدينة ذمار، ويحتفظ بذكريات (حالية) جميلة مع الرئيس إبراهيم الحمدي، يومه باكراً، يجول بسيارته ذات اللون الأصفر الفاقع والطراز القديم "تويوتا موديل 1974م"، ابتاعها بثلاثين ألف ريال "عشرة آلاف كاش والباقي تقسيط مريح"، وأسماها "الزوبــة"، وعليها علقت صور الزعماء الذين حكموا اليمن قبل وبعد الوحدة، ابتداءً من الإمام يحيى حميد الدين وانتهاء بالرئيس عبدربه منصور هادي، وكذلك قادة ثورتي سبتمبر وأكتوبر، وبعض "الشهداء" الذين توفوا في حوادث مختلفة.

في مقدمة السيارة "الزوبة" -التي يعتني بها ويعتبرها جزءا من هويته وزرع في مقدمتها الورود وعلى سطحها نشر نباتات مختلفة الأنواع- مكبرات للصوت، يستخدمها الحورش للتوعية "بقضايا النظافة، وإرشاد السائقين بضرورة الالتزام بقواعد المرور، وكذلك التوعية بقضايا البيئة والزراعة، "ودائما أكون متواجداً في الأعياد والمناسبات الوطنية"، والتي اعتبرها النواة الأولى لمشروع السيارة المصورة.

حاول الكثير مجاراته واستنساخ تجربته إلا أنهم لم يفلحوا ولم يستطيعوا الوصول إلى ما وصل إليه من نجاح، ويمكن القول إن خالد الحورش استطاع تأسيس مدرسة "للدعاية" قبل دخول آلات الطباعة "الأوفست" والكمبيوتر إلى عالم الدعاية والإعلان، لأنه "أحب ما يعمل فعمل ما يحب".

يقول خالد الحورش، الذي لم ينل ولو قدرا بسيطا من العلم رغم أن أسرته ارتبط اسمها بالـعلم والثقافة: "لم أعمل في هذا المجال سعياً وراء المال أو السمعة على الإطلاق، لكن لأني "هويته" منذ أن توظفت أيام الرئيس عبدالله السلال أول رئيس للجمهورية العربية اليمنية (1917-1994)، وخيّرت بأن أعمل في أي مجال فاخترت قطاع "النظافة" وخاصة مجال التوعية، وهي هواية لي منذ أن انطلقت ثورة سبتمبر".

ويضيف: "أنا رجل بسيط بعد حالي، أخرج الصباح للتوعية بقضايا النظافة والمرور أو في الاعياد والمناسبات، ومن ثمّ أعود إلى منزلي"، مشيراً إلى أنه يعتبر التوعية "متعة"، خاصة إذا تعلق الأمر بالنظافة والزراعة "حتى الجنائز أشارك فيها، وكذلك تحفيز الشباب للعمل وطلب العلم، تستطيع أن تشبهني بالإذاعة المتنوعة المتنقلة، ولا أنشد المال مقابل ما أعمل "أنا مقتنع بما أقوم به جدا، جداً، جداً، والصور الموجودة على سيارتي عبارة عن تاريخ لا يستطيع أحد إنكاره".

رغم أن الحكومة قامت مؤخراً بتثبيت مجموعة من عمال النظافة وصل عددهم إلى حدود أربعة آلاف عامل، إلا أن القرار لم يشمل الحورش الذي يعمل في قطاع النظافة منذ 15 عاماً، حسب قوله، وما يزال حتى اللحظة متعاقداً براتب 25 ألف ريال شهرياً، رغم امتلاكه بطاقة شخصية مكتوب عليها "يمني الجنسية" والقانون يمنع التعاقد مع أي مواطن يمني، و"يعود الفضل في إدراج اسمي ضمن كشوفات العمل إلى أمين العاصمة الأسبق حسين المسوري، براتب عشرة آلاف ريال فقط".

بداية المشروع

خالد، الذي لم يكمل تعليمه بسبب إلحاح والدته خوفا عليه من ملاقاة مصير أخيه الشهيد أحمد الحورش، أحد قادة ثورة 1948م ضد الإمام يحيى حميد الدين، الذي أعدمه الإمام أحمد حميد الدين رغم أنه أحد مدرسيه، اعتبر مرحلة تسنُّم الرئيس الحمدي مقاليد السلطة في اليمن الشمالي آنذاك، بداية مشروعه الذي يمكن تسميته بـ"الدعاية المتنقلة".

وأضاف: "الزمان الذي عشنا فيه حمل كل معاني الحياة، لكن حاليا أصبحنا نجاهد لتوفير لقمة العيش، كنت أدرس في مدارس صنعاء، إلا أن والدتي أصرت عليّ بترك التعليم وعندما حاولت استفسارها عن السبب، أجابت: قطعوا رأس أخوك بسبب الدراسة، زيّد (أكثر من) التعليم وقام يعمل له ثورة، وقطعوا راسه، ما عندنا استعداد يقطعوا راسك!، اضطررت إلى ترك التعليم، حتى أن والدي حسن الحورش الطبيب في المستشفى الجمهوري، الذي كان يسمى إبان حكم الأئمة المستشفى المتوكلي، لم يقل لها أي شيء لأنه أصيب باكتئاب شديد بعد إعدام شقيقي أحمد".

علاقته بـ"الحمدي"

أسر كثيرة ماتزال تذكر الرئيس إبراهيم الحمدي وتعتبره صاحب مشروع بناء الدولة اليمنية الحديثة، وأن كثيرا من الشواهد القائمة حالياً حتى الأنظمة التي تسود مؤسسات الدولة هي من أفكاره، وأنه آمن بالدولة المدنية رغم أنه كان رجلاً عسكرياً، إلا أن خالد الحورش يحتفظ بذكريات وصفها بـ"الرائعة" مع الرئيس الشهيد.

يقول الحورش: "كان الحمدي شخصية بسيطة وطيبة، وكنت أطارده بسيارتي من مكان إلى آخر، ولا أنسى ما كان يقدمه لي، حتى أني كنت أذهب إليه باستمرار، واعتبره رجلا عظيما وقدّرنا تقديراً غير عادي، فهو مخلص للوطن ولا ينسى أي شخص يلقاه وخاصة إذا كان من الثوار".

وأشار إلى أن أول لقاء مباشر مع الرئيس الحمدي كان بمكتبه في القصر الجمهوري وحدثت له مشكلة حينها "فعندما دخل القصر الجمهوري تعلّقت بسيارته، وقبض عليَ الجنود و(هزوروني) -اعتدوا عليّ- ، وبعد أن دخل القصر سأل حراسته: أين الحورش؟ قالوا له: موجود في الباب...وأتوا إليّ قلت لهم أخذتوا كوتي وجنبيتي، فأمرهم الضابط المستلم بإعادة ملابسي وجنبيتي ومن ثمّ ذهبت إلى الحمدي وجلست معه في كرسي مكتبه وأخبرته بمشكلة تتعلق بأرضية لنا أخذها أحد قادة الجيش فهمّ بالاتصال به فوراً وأحضره إلى مكتبه وقال له: هذا شقيق الشهيد احمد الحورش الكرسي الذي نحن نجلس عليه من دماء الشهداء وشقيقه أحد هؤلاء، وطالبه بإعادة الأرضية والتزم له بالتعويض عن أي خسائر، وكلّف القاضي عبدالكريم العرشي، بمتابعة القضية واكتشفوا أن الغريم كان يحاول البسط على أرضيتي، وقال لهم الحمدي قبل ذلك: إذا كان الحورش مخطئا احبسوه وإذا كان القائد في الجيش فلنا كلام...".

عند سماع الحورش بنبأ مقتل الرئيس الحمدي، شعر بالرعب والقلق وهرع إلى سيارته وانتزع صوره من على السيارة إلا أن المواطنين آنذاك نهروه وطلبوا منه إعادة صور الحمدي إلى السيارة، وتوزيع صوره عليهم إذا كانت موجودة، "لأن الرجل دخل إلى قلوب جميع الناس، ببساطته ومشروعه في بناء اليمن"، بحسب الحورش.

هـــــروب

بينما وصل بنا الحديث إلى الرئيس السابق علي عبدالله صالح، تحاشى، الحورش، الحديث بالمطلق عنه، رغم أنه يعتبره "إنساناً وفيا" "ويجلّ أسرتنا كثيراً"، ورغم أنه لم يقابل الرئيس السابق، صالح، على الإطلاق إلا أنه كان وما زال يتمنى لقائه والتحدث إليه، "وعندما كان يمشي بموكبه حيث أتواجد بسيارتي كنت افتح الأناشيد الوطنية ولم يقصّر معنا مطلقاً".

أثناء الحديث الجانبي بيننا، قال الحورش إن أناساً وشوا به عند الرئيس صالح، وأخبروه بأنه يعلق صور الأئمة والحمدي وقادة من ثورة سبتمبر بما فيهم قائد حركة الانقلاب الناصرية عبدالله عبدالعالم، فأجابهم صالح: هذا من حقه يعمل ما يريد".

تهـــديــدات

لا يخلو أي مشروع ناجح من المنغصات حتى ولو كان بسيطاً، وطوال مسيرته على سيارة "الزوبة" لم يتعرض أحد لـ"الحورش" "إلا أنه هذه الأيام أتعرض للتهديد بالقتل من قبل مجهولين يتصلوا بي بسبب الصور التي أعرضها على سيارتي، وعندما سألته لهذا السبب نزعت صور الحمدي، أجاب مباشرة: على الإطلاق وصوره موجودة ومازالت ملصقة على سيارتي".

موقف مؤثر

وكما أن عمله لايخلو من المنغصات كذلك المواقف الطريفة والمؤثرة تكون حاضرة باستمرار في عمله، يقول الحورش: "عندما كنت بسيارتي في التحرير وصلت إلى باب السباح وحاولت النزول إلى "السائلة" تعطلت المكابح وأمامي سيارات شرطة ومواطنين ، فلم أجد إلا صاحب المهنة "عربة النظافة" لأصطدم به لكن محاولتي بإيقاف السيارة لم تفلح، فاتجهت صوب أحد الجدران لأصطدم به وتنقلب السيارة، والحمدلله الركاب مجرد صور وجميعهم شهداء، ولم يتعرضوا لأي أذى، رغم ذلك ظلت المسجلة تردد أغنية "شكرا يا عامل النظافة".

"الثورة السلمية"

حاول الحورش مراراً عدم الخوض في غمار ما يطلق عليها "الثورة الشبابية الشعبية السلمية" التي انطلقت مطلع العام 2011م، رغم تاريخ أسرته النضالي ضد حكم الأئمة الظالم والمستبد، لكن بعد إلحاح متواصل، قال إنه "لم يشارك مطلقاً في ثورة الشباب، لكنه في المقابل شارك في مسيرات السبعين بسيارته؛ "لأن بطاقتي مؤتمر".

ووجه النصح إلى كافة شباب اليمن والساسة الذين يحكمون اليمن حالياً أن يشاركوا وبقوة في مؤتمر الحوار الوطني، وقال: "أنصحهم وأقول لهم أنتم لم تعرفوا ماذا حصل لنا وأين وصل بنا الحال، عليكم أن تتجنبوا العنف والصراعات التي لافائدة منها، والدخول بكل قوة في مؤتمر الحوار الوطني وأقولها بأمانة سيكون المؤتمر فاتحة خير لليمن والشعب بأكمله".

في الختام

قبل أن أنهي حديثي معه ومغادرة المكان، اتجهنا صوب سيارته "الزوبة" ليريني معرض الصور الذي رسم عليها، وكان يستوقفني كثيراً عند صور الأئمة الذي أعدم أحدهم شقيقه الأكبر، ويشيد بشخصية الإمام أحمد حميد الدين القوية، والتي تمكن من خلالها تعزيز هيبة الدولة وأوقف "المشايخ" عند حدهم، قاطعته بأدب، وسألته: هل تفكر في توريث مهنتك لأبنائك؟ فأجاب: "هناك أمل كبير باستمرار مشروعي، فولدي الكبير أحمد يهوى عملي، وإذا قدر الله وتوفيت فسيقوم بالواجب على أكمل وجه".