وثائق سرية في قطعة أثاث قديمة تهدد أسطورة الدول الخمس

خمس دول تتجسس على كل نقطة في العالم لكنها لا تتجسس على بعضها البعض، وبعض المواد تصنف عيونا أميركية فقط
 
حماية الأسرار المصنفة عالية السرية هي أحد القوانين الذهبية لنادي المخابرات الأكثر حصرية على وجه الأرض. هناك خمسة بلدان فقط أعضاء في هذا النادي تتقاسم يوميا كنزا من المعلومات السرية المكتسبة بشكل متخف حول الحكومات الأجنبية والتنظيمات الإرهابية والأفراد المستهدفين وهو ما يوفر أفكارا ليس لها مثيل في تطوير الأمن والتهديدات الاقتصادية والسياسية في مختلف أنحاء العالم.
 
منظمة تبادل المعلومات الاستخباراتية “العيون الخمس” التي يتكون أعضاؤها من الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وكندا وأستراليا ونيوزيلاندا هي منظمة فريدة من نوعها.
 
وتعتمد هذه البلدان على جدارة كل واحدة بالثقة التامة. لكن أحد أعضائها أخل بالقاعدة الذهبية (وبطريقة كوميدية) عن طريق ترك حزمة من الوثائق الحكومية السرية في خزانتين للوثائق مقفلتين ثم بيعتا مقابل عشرين دولارا أستراليا في دكان أثاث مستعمل في مدينة كانبرا.
 
توتر خطير
 
تتضمن الوثائق خططا أمنية خاصة بمنطقة الشرق الأوسط، ومعلومات استخباراتية حول النشاط السرّي لدول مجموعة العيون الخمس، ما يضع المجموعة الاستخباراتية الأشهر في العالم في ورطة.
 
وفي حين أن هذه المعلومات التي وقع الكشف عنها والتي أذيعت على القناة الوطنية الأسترالية إيه بي سي، من غير المحتمل أن تتسبب في أضرار طويلة المدى للأمن القومي الأسترالي، كانت هذه الهفوة آخر ضربة يتلقاها نادي العيون الخمس.
 
ويرصد الصحافي البريطاني مايكل إيفانس، في تقرير نشرته دايلي بيست، خفايا هذه التسريبات وما تكشفه من أسرار العيون الخمس، مشيرا إلى أن شروط العضوية تعرضت بالفعل إلى توتر خطير، وذلك ليس بسبب الغلطة الأسترالية لكن بسبب قرار سياسي اتخذه الرئيس الأميركي دونالد ترامب.
 
وأثارت المذكرة الصادرة عن لجنة الاستخبارات في مجلس النواب والتي تزعم بأن مكتب أف بي آي أساء استخدام سلطاته ضد مساعد ترامب أثناء الحملة الانتخابية المخاوف بأن طرق العمل البريطانية وكذلك الأميركية قد تُكشف بسبب استعداد الرئيس لنشر هذه الوثيقة.
 
ونقلت صحيفة الدايلي تلغراف عن مصادر برلمانية أن أجهزة المخابرات البريطانية التي تعمل بشكل لصيق مع نظيرتها الأميركية، قلقة بشأن أن يلحق الضرر أيضا بتقنيات الجوسسة لديها عبر نشر المذكرة.
 
ويعلق السير دايفيد أوماند، المدير السابق لمركز مخابرات الإشارات البريطاني، بأنه يعتقد أن ذلك “غير مرجح”، لكنه حذر، بعد مزاعم في المجال العمومي، من أن المركز أبلغ الولايات المتحدة بوجود اتصالات بين المشرفين على حملة ترامب والروس قبل الانتخابات.
 
بينما كان المشتغلون في مركز مخابرات الإشارات يراقبون الروس وجدوا أنفسهم يستمعون إلى شخصيات سامية من فريق حملة ترامب الانتخابية.
 
ويقول السير دايفيد “لذا من المحتمل أن يكون ذلك مضرا إذا مكّن نشر المذكرة الروس من استخلاص كيفية الحصول على هذه الاتصالات”. ولاحظ أنه من غير المعتاد إصدار أمر سياسي لنشر معلومات استخباراتية.
 
وسواء أضر ذلك بالتقنيات البريطانية أم لا، فإن السياق السياسي المحيط بمذكرة لجنة الاستخبارات في مجلس النواب يثير قضايا جدية لمنظمة العيون الخمس.
 
ومرّ النادي بنصيب كاف من الحوادث المحرجة في السنوات القليلة الماضية، وكان أكثرها تأثيرا كشف إدوارد سنودن للآلاف من الملفات عالية السرية التي نسخت ونزعت من وكالة الأمن القومي الأميركية حيث كان يعمل بصفة متعاقد. لقد ألحق سنودن أكبر قدر من الضرر باتفاقية العيون الخمس مما فعله أي عضو في النادي منذ تأسيسه.
 
وتمسك أعضاء العيون الخمس ببعضهم البعض مثل العاشقين في عالم متغير بسرعة وحيث يمكن لمبادلة المعلومات الاستخباراتية فيه بين البلدان أن تصنع الفارق بين الحياة والموت، نظرا لخطورة التهديد المتأتي من الإرهابيين الدوليين والدول المارقة.
 
لماذا إذا يقتصر نادي العيون الخمس بصفة حصرية على القوى الناطقة باللغة الإنكليزية؟ أليس هناك ما يدعو النادي إلى استدعاء المزيد من الأعضاء من أوروبا ومن البلدان الموثوق بها في الشرق الأوسط؟ هل يمكن أن يكون العالم مكانا أكثر أمانا إذا كان نادي العيون الخمس، العيون العشر، أو العيون العشرين؟
 
الجواب على هذا السؤال معقد. هناك ترتيبات عديدة بموجبها يمكن لبلدان “أطراف ثالثة” أن تستفيد من المعلومات المخابراتية التي يتحصل عليها الشركاء في نادي العيون الخمس. فبلدان مثل فرنسا والنرويج وهولندا والدنمارك وألمانيا وإسبانيا وإيطاليا وبلجيكيا والسويد سمح لها في وقت ما في الماضي بدخول النادي كأعضاء غير رسميين، عندما تكون مصالحها الأمنية القومية معنية، لكن فقط في ما يتعلق بالمعلومات المرتبطة بمشاغلها.
 
ترامب ينسف الثقة
 
زاد التعاون بين أعضاء العيون الخمس بشكل ملحوظ منذ الحادي عشر من سبتمبر. كما أن وكالات الاستخبارات الأوروبية هي الآن أكثر تنسيقا في ما بينها من أي وقت مضى، وكذلك تحسنت آلية جمع المعلومات المخابراتية لدى الناتو.
 
الثقة هي المعيار الذهبي المطلق لتبادل المعلومات المخابراتية إذ يقول أغلب العاملين في المخابرات بأنه كلما زاد عدد البلدان التي تتشارك معها المعلومات بشكل منتظم زادت إمكانية حدوث تسريب أو خرق لإجراءات السلامة. إذا من المرجح أن تبقى العيون الخمس، خمس عيون لهذا السبب بالذات.
 
ولقي قدوم دونالد ترامب إلى البيت الأبيض بعض الارتياب وإن لم يكن ذلك بشكل صريح أو رسمي أبدا. كان في حملته الانتخابية قد انتقد السي آي إيه نقدا لاذعا وعبّر صراحة عن إعجابه بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين.
 
وأمام ذهول الحكومة البريطانية بدا مساندا لاتهام وجهه معلق إعلامي أميركي بأن مركز مخابرات الإشارات البريطاني تلقى طلبا من باراك أوباما بالتنصت على غرفة في بناية برج ترامب في مدينة نيويورك. وكذب المركز هذه المزاعم واصفا إياها بأنها “مضحكة تماما”.
 
يتمثل أحد مبادئ العيون الخمس في أن المعلومات المخابراتية المجمعة من داخل النادي لا يمكن مشاركتها أبدا مع أطراف ثالثة دون موافقة البلد الذي جمع المعلومات بشكل محدد. وهذه قاعدة عامة بالنسبة لغالبية وكالات المخابرات.
 
ويبدو أن ترامب لم يحترم تلك القاعدة عندما كشف عن تفاصيل مؤامرة إرهابية خطط لها تنظيم الدولة الإسلامية خلال حديثه مع وزير الخارجية الروسي سرجي لافروف أثناء اجتماع في البيت الأبيض في مايو الماضي.
 
وكُشف في ما بعد بأن المعلومات جاءت من الإسرائيليين ولم تمرر بعد حتى إلى حلفاء الولايات المتحدة.
 
وكان على رئيسة الوزراء البريطانية تيريزا ماي أن تتدخل مع ترامب عندما تم تسريب تفاصيل عمل سرية حول تفجير مانشستر في مايو الماضي إلى وسائل الإعلام الأميركية.
 
وتم تحديد هوية منفذ عملية التفجير قبل أن تكون شرطة مانشستر مستعدة لنشر تلك المعلومة وظهرت صور لبقايا القنبلة. وتسبب ذلك في إثارة غضب الشرطة إلى درجة أنها علقت مؤقتا تبادل المعلومات مع نظرائها الأميركيين.
 
كما تورطت إدارة أوباما هي الأخرى في خرق قواعد مشاركة المعلومات المخابراتية، ففي سنة 2012 حصلت الصحافة الأميركية على تفاصيل خطة قام بها النيجيري عمر فاروق عبدالمطلب لتفجير عبوة ناسفة يحملها في ملابسه الداخلية على متن طائرة متجهة من أمستردام إلى دترويت. وكشف ذلك عن مشاركة مصدر مخابرات بريطاني لعب دورا حيويا في إفشال الخطة مما أثار غضب المجتمع الاستخباراتي في المملكة المتحدة.
 
العلاقة الخاصة
 
بوجود الخلاف الأخير في مسألة مخابراتية تتعلق بمذكرة التواطؤ الروسي، هل من أمل في استمرار آلية العيون الخمس التاريخية في شكلها الحالي؟ مع العلم أنها توجد في قلب ما يسمى “العلاقة الخاصة” بين الولايات المتحدة والمملكة المتحدة. والجواب يكمن في الرابط المتين الموجود بين أجهزة الاستخبارات للبلدان الخمسة.
 
وبصرف النظر عمن يوجد في الحكومة، يعمل رؤساء الأجهزة أنفسهم عن كثب مع بعضهم البعض حتى يتمكنوا من الحفاظ على تدفق المعلومات مهما كان يجري في عالم السياسة.
 
يرتكز نادي العيون الخمس أساسا حول استخبارات الإشارات، وهي الطريقة الأكثر غرابة من بين طرق جمع المعلومات السرية. لكل عضو من الأعضاء الخمسة دور مختلف، فمثلا محطة التنصت التابعة لمركز مخابرات الإشارات البريطانية في قبرص تراقب حركة مرور الإشارات الإلكترونية الداخلة والخارجة من الشرق الأوسط،.
 
وتتكفل محطة مخابرات الإشارات الأسترالية الموجودة في باين غاب، جنوب غرب ألايس سبرينغس، بمراقبة حركة مرور الإشارات في جنوب وشرق آسيا. أما نيوزيلندا فلديها محطتا تنصّت للتركيز على جنوب المحيط الهادي وجنوب شرق آسيا، ويعرف على كندا بأنها تراقب روسيا والصين وأميركا اللاتينية.
 
وتبقى الولايات المتحدة بالطبع أكبر مزود بالمعلومات المخابراتية الخاصة بالإشارات حيث تجمع أقمار التجسس الأميركية الملايين من الاتصالات الإلكترونية على مدار الساعة.
 
وكانت الشراكة في تبادل المعلومات الاستخباراتية في البداية مقتصرة على الولايات المتحدة وبريطانيا ويرجع ذلك إلى اتفاقية أبرمت في سنة 1946 وكان الهدف منها مواصلة الشراكة الناجحة جدا في فك الشفرة خلال الحرب العالمية الثانية، ثم انضمت كندا في سنة 1948، وفي سنة 1956 التحقت أستراليا ونيوزيلندا ليتكون نادي العيون الخمس.
 
تنص الاتفاقية على ألا يتجسس أي من الأعضاء الخمسة على بعضهم البعض، وليس كل المعلومات للمشاركة حيث تصنف بعض المواد “عيونا أميركية فقط”.
 
عند بداية المشروع غير المسبوق بين الولايات المتحدة والمملكة المتحدة شرع الحليفان في التنصت على مختلف المؤسسات وأدق تفاصيل الحياة في الاتحاد السوفييتي.
 
وحسب ملفات تم رفع السرية عنها من قبل الأرشيف الوطني البريطاني في سنة 2010، كان الجزء الغالب من الإشارات المعترضة يتكون من اتصالات فردية حول القدرة العسكرية وخطط التعبئة وتطوير الأسلحة والروح المعنوية بين الجنود السوفييت في بداية الحرب الباردة.
 
لكن كانت هناك بعض الأحاديث التي التقطت من الروس العاديين الذين يحاولون عيش حياتهم تحت الخوف المستمر من الحرب، وفي هذا السياق سمعت إحدى الأمهات وهي تقول “أنا خائفة من ترك الأطفال هنا. ماذا عن حدوث حرب فجأة؟”. واليوم تعود أقمار التجسس الأميركية دون شك إلى الاستماع إلى الروس للتأكد من المعنويات والجاهزية العسكرية، ولكن ليس الجميع من خارج عائلة العيون الخمس سيسمعون عن ذلك.