أجهزة كشف الكذب تكذب أكثر من البشر

تمثل التهديدات الأمنية معضلة كبيرة لمعظم دول العالم. ولم يعد الناس يشعرون بالاطمئنان والراحة نتيجة تصاعد وتمدد الهجمات الإرهابية التي جعلت الرعب يستوطن نفوس البشر أينما كانوا، غير أن رواد الذكاء الاصطناعي يعملون على قدم وساق للتصدي للخارجين عن القانون وجعل العالم مكانا أفضل للجميع.

كشفت التفجيرات التي شهدتها أنحاء متفرقة من العالم، عن تنامي خطر الهجمات الإرهابية. وبات هذا الخطر المتزايد، يمثل تحديا كبيرا أمام أجهزة الأمن، إذ يصعب عليها في غالب الأحيان التنبؤ بالهجمات. كما تتزايد الضغوط الواقعة على كاهلها، لكي يتسنى لها اتخاذ القرارات الصائبة، بشأن الاحتمالات المتعلقة بإمكانية وقوع هجمات داخل دور العبادة ومحطات وسائل النقل العمومي والمطارات وفي المحلات العمومية والطرقات.

من بين الحلول التي ارتأت إليها بعض حكومات العالم، هي توفير التمويل لرواد الذكاء الاصطناعي لتطوير وسائل تعتمد على تقنيات الذكاء الاصطناعي لتحليل أفكار الناس ومزاجهم بهدف الكشف عن نواياهم.

ويسود تفاؤل كبير بين رواد الذكاء الاصطناعي بشأن فعالية دور الخوارزميات الذكية التي ستحل محل الضباط المكلفين بعمليات التفتيش الأمنية، حيث سيكون بمقدورها النظر في جوازات سفر الركاب والتقاط صور شخصية لهم، كما سيكون بوسعها أيضا الولوج إلى أرشيفهم الاجتماعي وأنشطتهم على الإنترنت وشبكات التواصل الاجتماعي، للتأكد من هويتهم، وإن كانوا لا يشكلون أي خطر أو تهديد.

ويؤكد الخبراء أن هذه الأنظمة ستكون أكثر نجاعة من أجهزة كشف الكذب المعروفة بالبوليغراف التي يتم استخدامها في دوائر الشرطة والتحقيق.

وتستعمل أجهزة البوليغراف لقياس معدل نبضات القلب وضغط الدم ومعدل العرق والتنفس ومن خلال مقارنة تلك المعدلات الأربعة، يمكن للخبراء أن يعرفوا ما إذا كان الخاضع للبوليغراف يكذب أم لا.

واخترع جون أوجست لارسون البوليغراف عام 1921. واستخدمها المحققون ورجال الشرطة والقضاة منذ ذلك الحين، ولكن مصداقيتها لا تزال إلى اليوم موضع خلاف عند علماء النفس ومحل اعتراض عند الفقهاء والقضاة. وأصدرت الأكاديمية الوطنية للعلوم في الولايات المتحدة تقريرا رسميا عام 2001 بعدم اعتماد هذا الجهاز كمصدر موثوق فيه.

نسبة الخطأ

يقول المعارضون لاستخدام البوليغراف إن نسبة الخطأ في نتائجه أكبر من أن يتم الاعتماد عليها في قضايا مصيرية. ويشدد خبراء الجاسوسية على أن الجواسيس المخضرمين قد تلقوا تدريبات فعالة في كيفية التحكم في المتغيرات الفسيولوجية، أو إنه يمكن أن يقنع الخاضع للجهاز نفسه خلال الأسئلة المعيارية، وهي تلك المصممة لكي يقول الحقيقة، إنه يكذب فيعطيهم بذلك خطا أدنى من التردد يمكن أن يناور من خلاله.

وتوافق محاكم عدة دول على ذلك الرأي ولا تعتمد نتيجة البوليغراف كسند قانوني، ولكن الأجهزة الأمنية التنفيذية في نفس تلك الدول تستخدمه كمؤشر على صدق متهم أو كذبه بشأن موضوع ما. وبالنسبة للمشتبه فيه العادي، يكون التلويح باستخدام جهاز كشف الكذب فعّالا في جره للاعتراف أو أن يتوتر جدا بحيث يتضارب كلامه فيمكن للمحقق استدراجه للاعتراف.

ولكن تلك السمعة التي حصل عليها البوليغراف جاءت من أفلام السينما ومسلسلات التلفزيون. ويقول أعضاء من المركز القومي للبحوث الأميركي إن أفضل ما وصل إليه العلم في أجهزة البوليغراف، لا يضاهي تلك الفكرة الأسطورية التي اخترعها التلفزيون، في حين دافعت جمعية “البوليغراف” الأميركية، عن مفهوم كشف الكذب مشددة على أنه استخدم في كافة ثقافات العالم لقرون وقرون.

ومن الاختبارات التي عرفت في بعض الحضارات القديمة أن يعطى المشتبه فيه حفنة من الأرز المبلول ليضعها في فمه، وإذا سال لعابه وابتلع أو بصق الأرز فهو يكذب.

وتركز فكرة البوليغراف إذن على وضع المتهم في حالة نفسية تقرب من التوتر، حتى يمكن استخلاص الحقيقة منه، أما أنظمة كشف الكذب الحديثة المعتمدة على الذكاء الاصطناعي، والتي ستحل مستقبلا مكان جهاز البوليغراف في جلسات المحاكم وبالمطارات، فسيتم “تدريبها” على التعرف على تعابير الوجوه وترددات الأصوات وتفسيرها، تماما مثلما يمتلك البشر القدرة على تمييز تلك التعابير والترددات الصوتية.

تعمل شركة أميركية رائدة في مجال التكنولوجيا، سبق لها التعاون مع سلطات الحدود والجمارك في الولايات المتحدة، عقب هجمات الحادي عشر من سبتمبر عام 2001، على تطوير إحدى هذه المنظومات، الهادفة إلى تحديد هوية المسافرين الخطرين، قبل وقت طويل من توجههم جوا إلى الولايات المتحدة.

ولدى الشركة نظام لتقييم التهديدات والمخاطر يحمل اسم “لاين سايت”، يجمع البيانات الخاصة بالمسافرين من وكالات حكومية أميركية مختلفة، وكذلك من مصادر أخرى، ليصدر تقييما للمخاطر المرتبطة بكل منهم، بناء على حسابات رياضية.وجرى توسيع نطاق هذا البرنامج وتعزيز إمكانياته حتى يشمل أنواعا أخرى من المسافرين والبضائع التي يمكن أن تكون موضع اهتمام المسؤولين عن أمن الحدود.

والعام الماضي، تمكن باحثون في علوم الحاسوب من جامعة ميريلاند بالولايات المتحدة، من تطوير محرك “دير”، المعتمد على نظام الذكاء الاصطناعي بهدف كشف محاولات الكذب والخداع في قاعات المحاكم من دون التدخل البشري.

وقام الباحثون بتدريب الذكاء الاصطناعي على ملاحظة تعابير الوجه البشرية الدقيقة كتقطيب الحاجبين وبروز الشفتين وتصنيفها، وكذلك تحليل ترددات الصوت، من أجل الكشف عن الأنماط التي تدعم صدق الشخص أو كذبه، ثم اختبروا ذلك على مجموعة من التسجيلات لبعض مقاطع فيديو لممثلين لمعرفة مدى صدقهم أو كذبهم.

وبيّنت النتائج التي توصل إليها الباحثون أن أداء “دير” في الكشف عن الكذب أفضل في المتوسط من أداء البشر.

الكذب ألوان

قال بهارات سينغ، أحد الباحثين المشاركين في تطوير محرك “دير”، “لقد لاحظنا أن أداء نظام الذكاء الاصطناعي كان أفضل كثيرا في توقع الخداع من أداء الأشخاص العاديين”.

وأضاف “الكذب هو الكذب بالنسبة للآلة التي لا تعرف له ألوانا، ولا تعترف بما يعتبره البشر كذبا أبيض. ومن هنا سيقدم (دير) للمحاكم خدمات جليلة في كشف محترفي الكذب والخديعة”.

وأوضح “هناك تطبيقات عديدة قادرة على كشف الكذب تستطيع مدنا بنتائج موثوقة، لكن تطبيق (دير) يختلف عنها في عدم اعتماده على التدخل البشري عند استخدامه، إضافة إلى سهولة تطبيقه في المحاكم، وإمكانية استخدامه في مجالات أخرى خاصة ألعاب الفيديو عبر الإنترنت”.

أما راجا شاتيلا، رئيس اللجنة التنفيذية في المبادرة العالمية المعنية بأخلاقيات الأنظمة المستقلة والذكية، التابعة لمعهد مهندسي الكهرباء والإلكترونيات، فدعا إلى استخدام “دير” بحرص، منبها إلى ضرورة عدم الاعتماد عليه كليا في تحديد مصائر الناس، بل يجب الأخذ في عين الاعتبار حدود قدراته وسياق استخداماته، حتى تتحقق الغاية القصوى منه، وينجح في مساعدة (القاضي) على اتخاذ القرار الصائب.

وشدد شاتيلا على أن الطباع والسلوك تختلف من شخص إلى آخر، وكذلك على احتمالية وجود تحيز ناتج عن نوعية البيانات التي درب الذكاء الاصطناعي عليها.

ويرى البعض من الخبراء أن هذا الأمر أشبه بالأساطير، ويتساءلون إن كان في مقدور أنظمة الذكاء الاصطناعي بالفعل قراءة عقول وخلجات الناس على مختلف أطيافهم؟ معتبرين الفكرة برمتها ما هي إلا “كذبة كبيرة”.

ونبهت روث مورغان، خبيرة الطب الشرعي بجامعة كوليدج لندن، إلى أنه لن يكون من السهل التثبت من استنتاجات الذكاء الاصطناعي، إما لأنه ملك خاص لشركات بعينها، قد لا ترغب في إفشاء أسرارها، أو لأن الجهاز معقد إلى حد يستحيل معه إثبات استنتاجاته، وهذا قد يعوق استخدام هذه التقنيات على نطاق واسع.

ولا تزال هناك عدة تساؤلات حول مدى دقة الأنظمة المبنية على الذكاء الاصطناعي، فرغم أنها أثبتت أنها أسرع من الطرق التقليدية في الكشف عن الحقائق في بعض الأحيان، وأكثر دقة من البشر في أحيان أخرى، لكنها ستواجه اختبارا فعليا عند استخدامها في القضايا الحقيقية، إذ سيكون على الأجهزة الأمنية إثبات مدى مطابقتها للمعايير القانونية والأخلاقية قبل الإشادة بفوائدها في مجال التحقيقات الجنائية.

ملاحقة الإرهابيين

يبدو أن الاعتماد على أنظمة الذكاء الاصطناعي سيؤدي إلى التصدي بفعالية أكبر للأساليب المتطورة التي يستخدمها الإرهابيون لتنفيذ هجماتهم، والخارجون عن القانون للإفلات من قبضة العدالة، إلا أنها لا يمكن أن تحل محل الخبرات البشرية في هذا الشأن، لأنه ليس بوسع الآلات مهما بلغت درجة تقدمها، أن تحاكي قوة الإحساس والقصد في الدماغ البشري.

ولحسن الحظ يتمتع البشر بمرونة كبيرة، تجعلهم قادرين على تطبيق استراتيجية “التفكير في العكس″، بمعنى آخر يتبنون وجهة النظر المخالفة لتوقعاتهم، والتي تدفعهم للبحث عن الأدلة البديلة التي تتعارض مع مواقفهم الحدسية الأولى، وهذه الاستراتيجية ليس من السهل على تقنيات الذكاء الاصطناعي اكتسابها، فهي “تدرب” على التعرف على أنماط أو سلوكيات بعينها اعتمادا على مجموعات البيانات المخزنة، يمكن أن تكون مليئة بالتحيزات، بما يجعل الوهم والحقيقة يلتبسان في غالب الأحيان.