نزاهة الإعلام الغربي دعاية تكشف زيفها الوثائق السرية

رويترز تعترف بأن التمويل البريطاني السري يتنافى مع مبادئها للثقة والاستقلالية.

يكشف تمويل الحكومة البريطانية السري لوكالة رويترز في ستينات وسبعينات القرن الماضي، أن معايير الحيادية والمصداقية والنزاهة التي تروج لها الحكومات ووسائل الإعلام الغربية، ليست إلا شعارات لخدمة الأجندات السياسية للدول، وتحظى القصص الإخبارية بالانتشار الواسع إذا كانت تتماشى مع مصالح المؤسسات الإعلامية وحكوماتها.

وأظهرت وثائق حكومية رُفعت عنها السرية أن الحكومة البريطانية مولت رويترز سرا خلال ستينات وسبعينات القرن الماضي، حين احتاجت رويترز للمال لتتوسع في منطقة الشرق الأوسط فيما أرادت القوى الغربية مثل بريطانيا تقوية نفوذها ضد الاتحاد السوفييتي بتوسيع الخدمات الإخبارية في أنحاء العالم.

ويتنافى ما كشفته الوثائق مع تأكيد الوكالة على استقلاليتها، وحرصها على مصداقية تغطيتها الإعلامية بعيدا عن توصيات الحكومات ومصالحها السياسية، ما يشكل حرجا للوكالة التي اعترف المتحدث باسمها ديفيد كروندول أن “الترتيب الذي وُضع في 1969 لم يكن ليتماشى مع مبادئ الثقة الخاصة بنا، كما أننا لا نفعل ذلك اليوم”.

وأشار كروندول إلى مبادئ الثقة الخاصة برويترز والتي وُضعت للمحافظة على نزاهة وكالة الأنباء واستقلالها والتزامها الحيادية في أخبارها.

وبرر بالقول “كثير من المؤسسات الإخبارية كانت تتلقى دعما حكوميا بشكل ما بعد الحرب العالمية الثانية”.

ويشكل تبرير كروندول اعترافا واضحا بنفوذ وسائل الإعلام ووكالات الأنباء العالمية الكبرى والأجندات الخفية التي تقف وراء تغطيتها الإعلامية للأحداث، منذ الحرب الباردة وصولا إلى الوقت الراهن الذي تجتاح فيه الأزمات والصراعات مناطق مختلفة من العالم وخصوصا الشرق الأوسط.

وجرى الكشف عن تمويل الحكومة البريطانية لرويترز خلال الستينات والسبعينات في سجل للوكالة صدر عام 1992 بعنوان “قوة الخبر: تاريخ رويترز”.

ويشير العنوان بوضوح إلى أن تغطية الوكالة الإخبارية والمعلومات التي تنشرها، تشكل مصدر قوة مهما في مواجهة السوفييت، بعيدا عن الحيادية التي يفترض أن تتحلى بها وكالة إخبارية عالمية بحجم رويترز.

والمسألة البارزة التي تطرح في هذا الإطار هي حجم المصداقية التي تنالها وسائل الإعلام الغربية، خصوصا لدى القارئ العربي، مقارنة بالإعلام العربي ووكالات الأنباء الرسمية المتهمة دائما بأنها تمثل الدعاية الحكومية وصوت الأنظمة، في حين أثبتت الكثير من الأحداث أن وسائل الإعلام العالمية ذاتها لا تتمتع بما تروج له من موضوعية ومصداقية وحيادية.

وظهر ذلك جليا في حرب العراق والبروباغندا الإعلامية التي روجت لها وسائل الإعلام الغربية، وعلى سبيل المثال “كذبة الحضانات” الشهيرة التي حركت العالم لدعم حرب الخليج الثانية.

وترددت قصة الحضّانات وسائل الإعلام العالمية، وحولت مسار التحقيقات بشأن حرب الخليج، وساعدت في حشد الرأي العام الأميركي لصالح الحرب، وكررت التقارير التلفزيونية نفس الرواية. كما تبنت منظمة العفو الدولية (أمنستي) الرواية، ونشرتها ضمن شهادات أخرى توثق للقصة نفسها.

وبعد العديد من التقارير الاستقصائية للبحث في حقيقة الأمر، تبين أن الشاهدة تلقت تدريبات في مواجهة الجمهور وطريقة الإلقاء، عن طريق إحدى شركات العلاقات العامة.

وبدت ادعاءات وسائل الإعلام العالمية بأنها خدعت بالشهادة المزيفة، غير قابلة للتصديق لأنها ببساطة تتماشى مع سيل التقارير الإعلامية والأخبار التي أوردتها هذه الوسائل لتبرير الحرب على العراق والادعاء بامتلاكه أسلحة دمار شامل، لخدمة الأجندة السياسية الأميركية والبريطانية.

وأقر المخرج الهوليوودي روب راينر بأن وسائل الإعلام الأميركية انقادت وراء ادعاءات الحكومة بشكل مطلق دون أي محاولة للتحقق والتدقيق بشأن المعلومات والتبريرات التي أطلقتها في حربها ضد العراق، ووثقها في فيلمه “صدمة ورعب” الذي تحدث عن أربعة صحافيين أميركيين رفضوا الرواية الحكومية، فاتهموا بالخيانة. وقال راينر إن “الترويج لأجندات الشركات الضخمة، التي تملك وسائل الإعلام، هو المحفز لهذا الجدل وليس المبادئ أو الحقيقة”.

وتظهر الوثائق السرية التي كشفت، الاثنين، أن تمويل الحكومة البريطانية لرويترز سرا جاء بتوصية من وحدة الدعاية المناهضة للسوفييت، المرتبطة بالمخابرات البريطانية، وأنها أخفت التمويل عن طريق استخدام هيئة الإذاعة البريطانية لتقديم المدفوعات.

واستُخدم ذلك التمويل في توسيع تغطية رويترز لأخبار الشرق الأوسط وأميركا اللاتينية وجرى إخفاؤه من خلال زيادة مدفوعات اشتراكات هيئة الإذاعة البريطانية في الخدمات الإخبارية لرويترز.

وجاء في وثيقة منقحة للحكومة البريطانية تعود إلى العام 1969 وموسومة بوصف (سرية) وعنوانها “تمويل رويترز من حكومة جلالة الملكة”، “نحن الآن في وضع لإبرام اتفاق يتيح تقديم دعم حكومي سري لخدمات رويترز في الشرق الأوسط وأميركا اللاتينية”.

وتضيف الوثيقة التي رُفعت عنها السرية، العام الماضي، “يتعين أن يخدم الترتيب الجديد مصالح حكومة صاحبة الجلالة بشكل جيد”. ولا توضح الوثائق، التي تتناول تفاصيل اتفاق 1969 السري الذي مولت بموجبه الحكومة البريطانية رويترز، مدى النفوذ الذي أُتيح للحكومة في أخبار الوكالة مقابل التمويل، إن وُجد.

ومع ذلك تشير الوثائق إلى مدى التدخل الذي كان للحكومة في شؤون رويترز والاتفاق الواضح على إخفاء التمويل.

ونشرت هيئة الإذاعة البريطانية، الإثنين، موضوعا عن التمويل الحكومي.

وقالت متحدثة باسم هيئة الإذاعة البريطانية “يضمن ميثاق الهيئة الاستقلالية التحريرية بصرف النظر عما إذا كان التمويل يأتي من الحكومة البريطانية أو رسوم الترخيص أو مصادر تجارية”، بينما أحجمت متحدثة باسم الحكومة البريطانية عن التعليق.

وتظهر الوثائق أن قسم بحوث المعلومات، وهو وحدة دعائية بريطانية مناهضة للسوفييت تربطها صلات وثيقة بالمخابرات البريطانية، قادت المفاوضات مع رويترز.

وبلغ حجم التمويل الحكومي السري لرويترز -كما تورده الوثائق- 245 ألف جنيه إسترليني (317 ألفا و838 دولارا بسعر الصرف الحالي) سنويا قبل 1969 لكنه تقلص إلى 100 ألف إسترليني سنويا في 1969-1970 وانعدم في 1972-1973.

وقال جون بيك، الرئيس السابق لقسم بحوث المعلومات، في الوثائق “العلاقة الجديدة التي تأسست مع رويترز في الشرق الأوسط وأميركا اللاتينية يمكن أن تؤدي إلى حسن النية والتعاون مع الوكالة على نطاق عالمي”.

وقالت الوثائق إن رويترز “ستقدم” ما تحتاجه الحكومة، رغم أن مسؤولي الحكومة أقروا بأن رويترز لم ترغب في أن تظهر كما لو أنها تتخذ قرارات بناء على طلب من الحكومة البريطانية.

وتأسست رويترز في لندن في 1851 وتملكها حاليا مجموعة تومسون رويترز التي يقع مقرها في تورونتو، والوكالة من أكبر مؤسسات الأخبار في العالم.

وقال إنه في حين تبيع رويترز الأخبار إلى عملاء شتى من بينهم حكومات، فإن أيا من الحكومات لا يمارس أي سيطرة على ما تنتجه رويترز ولا على طريقة إنتاجه.

غير أن رويترز هي واحدة من وسائل إعلام دولية، تخدم مصالح حكومات ودول بأجندات واضحة لكنها تصر على الحيادية والنزاهة والموضوعية في شعاراتها، مثل “الحرة” الأميركية، و “أر.تي” الروسية، و”الجزيرة” القطرية.

ولا يلبث تقاطع المصالح بين هذه الدول، حتى تبدأ بكيل الاتهامات إلى بعضها البعض بغياب الشفافية والنزاهة، فلا ينقضي يوم دون أن تهاجم آر.تي الإعلام الغربي الأميركي والبريطاني بشكل خاص ساخرة من حرية التعبير في الدول الديمقراطية، ويشهر المسؤولون الغربيون والروس سلاح القوانين القديمة لتقييد عمل وسائل الإعلام المناوئة، وإدراجها تحت قانون العملاء الأجانب.

بدورها، لا تشعر الجزيرة القطرية بالحرج من الترويج للمتشددين والمتطرفين والإسلام السياسي، وتحت شعار حرية التعبير قدمت كل الرعاية لعرابي الفوضى والحروب والتطرف في المنطقة العربية، ثم تستأنف نشاطها المعتاد بالشكوى من المظلومية ومحاربة الحكومات لها وحصارها بالمنع والحظر.