أزمة الحكم في العراق... محاصصة طائفية أم تدخلات إيرانية؟

تعكس أزمة الحكم الحالية في العراق أزمة أكثر عمقاً، هي مستقبل هذا البلد الواقع في قلب الخريطة العربية، ومدى قدرته على استعادة هذا الموقع الذي خسره بعد الاحتلالين الأميركي والإيراني، على إثر سقوط نظام صدام حسين. وبقدر ما نشأت في وجه الاحتلال الأميركي حركة مقاومة واسعة استغلتها تنظيمات إرهابية مثل «داعش» وركبت موجتها، يثير نفوذ إيران اليوم موجة احتجاج مماثلة، تشهد عليها التظاهرات في مختلف المدن العراقية، ومن بينها مدن ومناطق كان يعتبرها نظام طهران خاضعة لنفوذه بحكم الأمر الواقع وأكثرية سكانها الشيعة.
 
الأزمة الحالية هي النتيجة البديهية لحالة المقاومة تلك. فالنزاع الحاصل الآن هو أساساً بين إيران وأتباعها من شخصيات العراق وأحزابه، من جهة، وبين أكثرية العراقيين الذين يرفضون دور إيران ونفوذها في بلدهم، ويطالبون باستعادة سيادة القرار العراقي، من جهة أخرى. يضاف إلى ذلك أن نظام المحاصصة الذي يقضي بتوزيع السلطات على الطوائف والقوى الرئيسية الثلاث، الشيعة والسنة والكرد، يجعل منصب رئيس الحكومة الشيعي موقعاً للتنازع بين إيران التي تحاول فرض الشخصية التي تتماهى مع مصالحها، ومصلحة القوى الأخرى التي ترى أن اختيار الشخصية التي تشغل هذا المنصب يجب أن يكون اختياراً عراقياً. وليست التظاهرات الحاشدة في شوارع المدن العراقية سوى انعكاس لحالة النزاع هذه على النفوذ والمصالح.
 
في صفحة قضايا عرض لأزمة الحكم في العراق بين المحاصصة الطائفية والتدخلات الإيرانية ولسياسات الهيمنة الإيرانية على العراق.
 
إن التساؤل المركزي الذي يواجه المتابعين للحالة العراقية، منذ اشتعال الاحتجاجات الشعبية في أول أكتوبر (تشرين الأول) الماضي حتى الآن، يتعلق بالتشخيص السليم للأزمة، حتى يمكن التوصل إلى العلاج المناسب لها، وهو أمر لم تنجح فيه الكتل السياسية الفاعلة على نحو يرضي قوى «الشارع».
 
تراوحت غالبية التحليلات التي سعت إلى إدراك التشخيص السليم بين اتجاهين رئيسين؛ أولهما هو أن هذه الحالة نتاج لنظام المحاصصة الطائفية التي تمت مأسستها في الدستور العراقي منذ ديسمبر (كانون الأول) 2005، بما يعلي من نفوذ التيارات الشيعية ويدشن نظاماً سياسياً معكوساً لما قبل الاحتلال الأميركي عام 2003. وثانيهما يُرجع الأزمة إلى كثافة التدخلات الإيرانية في الشأن الداخلي العراقي، والتي وظّفت انهيار أركان نظام صدام حسين وانسحاب القوات الأميركية وملء الفراغ العربي، بما يعزز إيران (التمدد).
 
هناك اتجاه رئيس في الأدبيات البحثية المتعلقة بالحالة العراقية يرى أن منبع الأزمة هو ما كرسه الدستور العراقي من نوازع الطائفية، على مدى السنوات الخمس عشرة الماضية، وهو ما تجلى في نواحٍ كثيرة؛ أبرزها ما يتعلق بهوية العراق، إذ تجاهل الدستور الانتماء العربي للعراق، بما حمله في طياته من فصل للعراق عن محيطه العربي وتعزيز التأثير الإيراني داخله. وكذلك ما قنّنه الدستور بشأن اجتثاث حزب «البعث»، وحرمان الأعضاء السابقين فيه من حق العمل في الدولة، على الرغم من وجود كثير من الكفاءات والكوادر ذات الانتماء البعثي، والتي حرمت من المساهمة في بناء العراق الجديد. وأيضاً اقتصار الدستور العراقي على معالجة دور المذهب الشيعي فيما يخص العلاقة بين الدين والدولة؛ إذ أشار إلى المرجعية والشعائر الحسينية، من دون أن يتحدث بشكل مباشر عن المذاهب الدينية الأخرى.
 
وتم التوافق بين الكتل والتيارات السياسية على توزيع السلطة بشكل محدد، على أن يكون رئيس الدولة كردياً، ورئيس الحكومة شيعياً، ورئيس البرلمان سنياً. وعلى الرغم من أن ذلك أدى إلى ازدياد القلق من تكريس صيغة طائفية للنظام السياسي، وسادت لهجات تحذير من «لبننة» العراق، مع اختلاف السياقات القاعدية في الحالتين، فإنه كان بوسع النظام العراقي «الوليد» استيعاب وتمثيل القوى السياسية المختلفة. فاعتماد نظام المحاصصة الطائفية في حالة المجتمعات التعددية لا يمثل عيباً في حد ذاته، بل قد يمثل أحياناً شرطاً أساسياً لتحقيق الاستقرار السياسي وبناء نظام سياسي ديمقراطي فعال ومستقر.
 
غير أن نجاح هذا النظام مرتبط بشروط عدة، وعدم تحقق هذه الشروط قد ينتهي بنظام المحاصصة إلى بناء نظام ديمقراطي زائف، ويخلق توازناً مجتمعياً هشاً، وقد يكون مقدمة لعدم استقرار ممتد أو حرب أهلية، وهو ما حدث بالنسبة للحالة العراقية، ولا سيما مع افتقاد المجتمع العراقي للثقافة والخبرة السياسية اللازمة لتقاسم السلطة؛ إذ لم يقبل السنة بفكرة إزاحتهم من هيكل السلطة التنفيذية، وتحديد دورهم السياسي استناداً إلى نسبتهم داخل المجتمع. كما تعامل الشيعة مع مرحلة ما بعد صدام حسين باعتبارها لحظة تاريخية لملء الفراغ السياسي الناتج عن انهيار النظام، وتأكيد هيمنتهم على الدولة، باعتبارهم الأغلبية داخل المجتمع. وتعامل الأكراد باعتبارهم أقلية قومية ذات وضع خاص في مواجهة الأغلبية العربية وفي سياق نموذج «الفيدرالية».
 
أما الاتجاه الثاني، فيرى أن الديمقراطية التوافقية ليست عيباً في حد ذاتها، وأن الطائفية هي جزء من المشكلة في العراق، لكن المشكلة الكبرى تكمن في توظيف إيران هذا البعد بما يصب في مصلحتها الاستراتيجية، ليس داخل العراق فقط، وإنما في الإقليم كله. فقد استفادت طهران من سقوط نظام صدام حسين، عدوها الرئيس في المنطقة، وإزاحة المجموعة التي استند إليها نظام صدام من السلطة، وهو ما فتح الطريق أمام سيطرة الشيعة الموالين لطهران في الحكومات المتعاقبة على عملية صنع القرار بالبلاد.
 
وبمرور الوقت، تحول الاحتلال الأميركي للعراق إلى احتلال إيراني، وإن اتخذ الأخير صورة متعددة، أعمق من البعد العسكري، تشمل أبعاداً سياسية وأمنية واقتصادية وثقافية. وأسفر ذلك في نهاية المطاف عن نظام سياسي عراقي ضعيف وتابع، يسهل استغلاله، بل اختراقه. كما نشأ تخندق طائفي تتولاه قيادات سياسية وتقوده تيارات حزبية طائفية تتصدر المشهد العراقي. وتبعاً لذلك، فإن إيران تتحمل قدراً كبيراً من المسؤولية عن عدم استقرار الأوضاع داخل العراق، ولا سيما بعد تكريس الطائفية في الجيش والأجهزة الأمنية وتشكيل الميليشيات المسلحة في جميع أنحاء البلاد.
 
فقد تبلورت ثقافة الأمن الطائفي القائم على الميليشيات المسلحة بدلاً من ثقافة الأمن الوطني القائم على القوات المسلحة للدولة، بعدما عملت الميليشيات لخدمة أهدافها وتحقيق مصالحها الضيقة التي تتصادم بوضوح مع المصلحة الوطنية، وهو ما جاء على حساب أمن الدولة وأمن المواطن العراقي. ومن أبرز النماذج التي تعبر عن ذلك ميليشيات «الحشد الشعبي»، التي تمثل «دولة داخل دولة»، وتتجاوز في تأثيراتها المؤسسة العسكرية النظامية. وتستفيد إيران من تلك الميليشيات في تعميق نفوذها العسكري داخل العراق، وضمان ألا يشكل أي فاعل إقليمي أو دولي خصماً من رصيدها الاستراتيجي فيه.
 
كما أن مراكز التأثير في صنع القرار الإيراني تدرك أن هناك ارتباطاً بين انتشار النفوذ الشيعي في العراق وتصاعد النفوذ الإيراني في الشرق الأوسط. ولولا الدور السلبي لإيران في العراق من خلال نهجها الطائفي في مرحلة ما بعد 2003، أثناء حكم رئيس الوزراء العراقي الأسبق نوري المالكي تحديداً، واستمرار هذا النهج في ظل حكم خلفه حيدر العبادي، لكان بإمكان شيعة العراق تقديم نموذج سياسي مختلف قد يسهم في الوصول إلى حالة مستقرة لحكم العراق، ولا سيما ما يخص المعالجة التنموية لأزمات المناطق السنية، والتي مثلت بيئة حاضنة ازدهر خلالها تنظيم «داعش».
 
إن تكليف الرئيس برهم صالح للمرشح محمد علاوي بتشكيل الحكومة الجديدة لا يمثل تسوية للأزمة السياسية في العراق، لأن المطلب الرئيس لقوى «الشارع» يتعلق بتغيير شامل في منظومة الحكم، وليس تغيير الحكومة، بما يؤدي إلى استعادة الثقة بالنظام السياسي. ولعل ذلك ما يفسر استمرار خروج قطاعات واسعة من الجمهور العراقي في محافظات ذات أغلبية شيعية مثل كربلاء والنجف، للاحتجاج ضد التدخل الإيراني، بعد الفشل في توفير الاحتياجات الأساسية للمواطن من شبكة كهرباء ومياه نظيفة وصرف صحي وفرص عمل، فضلاً عن الاعتراض على التعامل مع العراق كساحة للمواجهة والتصعيد بين واشنطن وطهران. وهنا، تخشى إيران من تراجع نفوذها في العراق، بسبب استمرار الاحتجاجات الشعبية، أو من انتقال شرارتها إلى الداخل الإيراني.
 
يتضح من ذلك أن التشخيص الأكثر ملاءمة لأزمة الحكم في العراق هو تضافر المحاصصة الطائفية مع التدخلات الإيرانية، فالعاملان أديا إلى بلوغ البلاد المأزق الذي تراوح فيه.
 
- رئيس وحدة الدراسات العربية والإقليمية بـ«مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية»