ثورة 26 سبتمبر.. عهد يمني جديد

26 سبتمبر/ أيلول 1962م.. ليس مجرد يوم جديد وثورة شعبية، بقدر ما هو ولادة عهد جديد، ظل يرقبه ملايين اليمنيين طيلة عقود الحكم الكهنوتي لبيت حميد الدين، نجح بتوصيفه الشاعر اليمني الكبير الراحل عبدالله البردوني، وهو يروي استثنائية ذلك اليوم بابدع مشهد تصويري اختار له براءة الطفولة التي لا يختلف عليها عاقلان..

يرفع الشاعر البردوني الستار على ولادة يوم جديد باركته الأرض والشجر والحجر حد استغراب الشمس في كبد السماء عن سر هذا الجنون الشعبي لذلك اليوم، مجيبا في ذات الوقت عن كل تلك التساؤلات..

أفقنا على فجر يوم صبي
فيا ضحوات المنى أطربي

أتدرين، يا شمس ماذا جرى؟
سلبنا الدجى فجرنا المختبي!

وكان النعاس على مقلتيك
يوسوس ، كالطائر الأزغب

أتدرين ،؟ أنا سبقنا الربيع
نبشّر بالموسم الطيب ؟

وماذا ؟ : سؤال على حاجبيك
تزنبق في همسك المذهب !

ويصوَّر البردوني حجم فرحة اليمنيين التي لم تستثن احدا بمن فيهم التواقون للحرية والعدل والمساواة المنحدرون من ذات السلالة الحاكمة، وهو يقول:

وسرنا حشودا تطير الدروب
بأفواج ميلادنا الأنجب

وشعبا يدوّي هي المعجزات
مهودي ، وسيف ((المثنّى)) أبي

غربت زمانا غروب النهار
وعدت، يقود الضحى موكبي

أضأنا المدى ، قبل أن تستشف
رؤى الفجر ، أخيلة الكوكب

وذهب بتصوير الفرحة الشعبية التي انفجرت كسيل عارم وبلغت ذروتها متجاوزة كل الحدود.. محطمة كل القيود، ولسان الشعب تبتهل الإله أن لا تغيب شمس ذلك اليوم لقداسته، وهو يقول:

فولّى زمان ، كعرض البغي
وأشرق عهد ، كقلب النبّي

طلعنا ندلّي الضحى ذات يوم
ونهتف : يا شمس لا تغربي

وكور المجرمين

ويروي الشاعر عباس الديلمي، قصة معاناة الشعب اليمني مع الاجرام الامامي الكهنوتي الذي وحَّد كل اطياف الشعب في مواجهته من اقصاه إلى اقصاه، في واحدة من الروائع الغنائية للفنان ايوب طارش عبسي..

يبقى الحديث منقوصا حين يسرد جرائم الطغاة، وتبقى صورة فرحة الشعوب وهي تحلق في الفضاء اكبر بكثير من ذات الفضاء، إلا ان الشعراء غالبا ما يقربون العدسة من ذات الصور باكبر قدر، ذلك ما قالته القصيدة (دمت يا سبتمبر التحرير يا فجر النضالِ/ ثورةٌ تمضي بإيمان على درب المعالي/ تسحق الباغي تدك الظلم تأتي بالمحالِ/ هدم الشعب السجونا/ ووكور المجرمينا/ ومضى يحمي العرينا).

يواصل الشاعر تحشيد اجزاء من صور انجازات ثورة 26 سبتمبر المباركة على المستوى العام للبلاد وليس شمال اليمن فقط، وهي وحدة الشعب الروحية بشطريه وليس مجرَّد شمال اليمن الذي كان يرزح تحت حكم الكهنوت الامامي، (موكب التحرير ألفت القلوبا/ وتوحدنا شمالاً وجنوبا/ وفتحنا لسنا العلم الدروبا/ فلتعيشي يا بلادي/ في علوٍّ وسدادِ/ ولدحر كيد الأعادي).

ليس لدى الشعوب اقدس من السلام، والعدل النقيض للظلم والشر والإقصاء، والعلم المبدَّد للجهل والظلام، لتجلجل حنجرة ايوب طارش -احد ابرز فناني الثورة- في ذات الرائعة الديلمية (نحن قد ثرنا وحققنا السلامْ/ لم يعد للظلم في أرضي مقامْ/ لم يعد فينا خؤونٌ أو عميلٌ أو ظلامْ/ عَصرنا بالخير بشَّرْ/ ونفوس الشر تقهرْ/ فافخري يا أرض حميرْ).

يمن الشموخ

فافخري يا ارض حمير، ان من اوقدوا النار تحت اقدام طغاة امامة بيت حميد الدين هم اليوم يحتطبون ارواح الاماميين الجدد لـ"بيت بدر الدين"، وسيزولون ببطشهم وجبروتهم.

هو يمن العزة والعدل الذي يفتديه اليمنيون بأرواحهم ودمائهم وولائهم وإخلاصهم.. المارد في هامة التاريخ، وقاهر المحن كما يحاول تصوير ذلك الشاعر الديلمي (يا مارداً في هامة التاريخ يقهر المحنْ/ وصانعاً أيلول صنعاء وتشرين عدنْ/ لا لن ينال الطامعون من شموخه ولنْ).

هو يمن التاريخ والزهو والطهر، ومهما حاول الطغاة العبث به إلا ان تاريخه الضارب في الاعماق يبقى شامخا بشموخ رجاله (دمت للتاريخ، محراباً مهابا
يمناً/ تزهو به العرب انتسابا/ يفتدي طهرك، ماءً وترابا
فتيةٌ، إن أمروا المجد استجابا).

عن 26 سبتمبر

يرى الناشط اليمني اياد الشرعبي ان حب (26 سبتمبر) زرع في أفئدة الاجيال منذ الطفولة لما سبقه من تضحيات وحركات تحررية عدة لم يكتب لها النجاح ومع ذلك لم ييأس الشعب التواق للحرية من المضي قدما في استعادة جمهوريته وكرامته من العائلة الحاكمة لبيت حميد الدين ومن ينحدرون من ذات سلالتهم التي استحوذت على كل شيء بصورة لا تختلف عن ما يعيشه الشعب اليوم تحت حكم ذات السلالة التي يتزعمها - زعيم المليشيا عبدالملك الحوثي.

ويقول الشرعبي -وهو ناشط ثلاثيني- "كنَّا نقرأ في التاريخ ونتعجب من المعارك المستمرة والتضحيات الكبيرة والشهداء الذين قدمهم الجمهوريون من اجل 26 سبتمبر، وبالرغم من اننا لم نكن نعي حقاً ميدان السياسة، تكشفت الامور واتضح ان ثورة سبتمبر لم تتحقق الا بعد ان خسر اليمن مئات الشهداء".

ويضيف "كانت الانتفاضة الاولى في 48 التي اسفرت عن مصرع الامام يحيى حميد الدين ورغم عدم وجود الامكانيات، وبيئة الجهل التي كانت تسيطر على اليمنيين ذلك الوقت مكنت الامام احمد من وأد ثورة 48 واعدام قاداتها بعد ان اباح صنعاء لمقاتليه فنهبوها واسرفوا بالقتل فيها، إلا ان ذلك لم يوقف العزائم المطالبة بالقضاء على الامامة واستمر حكم الامام احمد من مقره بتعز الى 55 عندما قام احمد الثلايا بالانقلاب ومحاصرة قصره في منطقة صالة بتعز لم يكن منه الا ان تنازل لاخيه عبدالله بتولي عرش الامامة وحدث لثوار 55 ما حدث لـ48 فاستعاد الامام الكهنوتي الحكم واعدم قاداتها".

وجه الله وقلب نبي

ومع استمرار الاوبئة والجوع بالفتك بارواح آلاف اليمنيين حيث لم يكن هناك على طول وعرض البلاد سوى مشفى او اثنين خاص بالاسرة الحاكمة، فيما الشعب يتداوى بالكي والسحر والشعوذة على ايدي عناصر من ذات السلالة كانت تطلق على ذاتها "اولياء"، وكذلك تغييب واهمال متعمَّد للتنمية والتعليم، استمر الشعب اليمني بالنضال نحو الحرية، وتعلم الاحرار من اخطائهم السابقة لتأتي بعد ذلك محاولة تصفية الامام احمد في الحديدة، ومع ان العملية فشلت لكنها لم تمت العزيمة وما هي الا اشهر حتى انفجر الطوفان الاكبر صبيحة 26 سبتمبر 1962م.. اليوم الذي قال فيه ملايين اليمنيين، "من شدة الفرحة شاهدنا وجه الله في هذا اليوم"، فيما قال فيه البردوني "عهد كقلب النبي"..

اختيار الموت والقحط

يروي جنود عملوا في حراسة القصر الملكي للامام انه حتى بعد مصرع الامام بقوا غير مصدقين لعدة ساعات، فقد كانوا يعتقدون ان امثال هذه السلالة تختار الموت لنفسها في الزمان والمكان الذي تريد، وليس من السهل اخراجها عن الحياة.. بينما مواطنون يروون انهم ظلوا اشهرا في قراهم يترقبون متى يبعث الامام مرَّة اخرى لا ينبسون ببنت شفة.

طيلة حكم السلالة الكهنوتية عملت على زرع الخرافة في عقول اليمنيين وجعلت من ذاتها ازليات لا تزول، وقالت لهم انها اذا غضبت على قوم حل ارضهم الجفاف وسادها القحط، واصابتهم لعنة من يسمونهم "أولياء"، حد ان نسوة اليمن كانت تلجأ إلى قبورهم محملة بالسمن والعسل تطلب بركاتهم بالحمل وهي "تلحف تراب القبور"، بينما الرجال الطالبون للرزق عليهم ان يقدموا الخمس من ما تجود به اراضهم وايديهم لبيت حميد الدين، تحت مزاعم الوصايا الإلهية.

وأمَْا المشايخ فيقدمون احد ابنائهم رهائن لدى الامامة، ضمانا لعدم تمردهم وخروجهم عن طاعته، فكانت حقب الجور والظلم تلك صورة مماثلة لما نشهده اليوم على ايدي بيت "بدر الدين"، وكان كل من يوالي تلك السلالة هم من الاقل وعيا وطمعا بالجاه والبقاء، كحاضرنا تماما.

أوجه التشابه

انقشعت حقبة الإمامة وبُعثت اليمن من جديد صبيحة 26 سبتمبر، واعلان الجمهورية، وما هي الا سنوات حتى بدأت المشاريع التنموية تزخر بها البلاد رغم محاولات من يمكن تسميتهم بـ"الدولة العميقة" لتلك السلالة الاستمرار بنخرها من الداخل، ولكنها فشلت مع تكاتف ومؤازرة الشعب لبعضه بالتزامن استمرت عملية تحقيق اهداف الثورة المباركة واحدا تلو الآخر حتى تحقيق الوحدة اليمنية في 22 مايو 1990م، مع مواصلة عجلة التنمية الدوران لتصل الطرقات والكهرباء الى معظم ارياف اليمن التي اصبحت مزروعة بمئات المدارس وعشرات الجامعات والمشافي.

الحقد الدفين لتلك السلالة الكهنوتية جعلها تعد العدة من يومها في كيفية الانقضاض على الجمهورية واستعادة مملكتها من جديد، وفي كل مرة يحالفها الفشل حتى جاءت احداث 2011 التي صدرها الغرب لمختلف البلدان الجمهورية في الوطن العربي وخصوصا تلك المناوئة لمشاريعهم ومصالحهم، ما دفع الاماميين بدعم ايراني الى ترتيب صفوفهم والاستفادة من خلخلة الدولة وتفكيكها الذي حصل حتى اسقطتها تماما في 21 سبتمبر 2014، وهو الشهر الذي اختارته بدراسة عميقة اعتقدت انها بذلك تذبح ثورة 26 سبتمبر التي يجمع عليها جميع اليمنيين بمختلف مشاربهم السياسية وانتماءاتهم القبلية، ايمانا بقداسة اليوم وطهره.

ومنذ سيطرة الاماميين الجدد على الدولة واسقاطهم الجمهورية كرسوا ذات المفاهيم وحذوا ذات حذو بيت "حميد الدين"، فاعتقلوا اقارب وابناء كبار القيادات والسياسيين المناوئين لهم وصادروا ممتلكاتهم واقصوا الشعب من الوظيفة العامة ونهبوا مرتبات الموظفين وكرسوا مفاهيم الطائفية والعرقية وشرَّعوا لانفسهم نهب الثروات وفرض الجبايات والاتاوات وشيدوا الفلل وزجوا بآلاف اليمنيين بالمعتقلات وهتكوا اعراض اليمنيات واتهموهن بالفسق والدعارة لكسر شوكة القبلية اليمنية وعنفوانها.

لم تتورع المليشيا عن جريمة إلا وارتكبتها، ولم ترفع ضدها اصوات الا وزجتهم في اقبية سجونها وسامتهم سوء العذاب، وهجَّرت ملايين اليمنيين، وبالرغم من ذلك ما زال السواد الاعظم من الشعب متحديا لجبروتها ويواجهها بالسلاح والكلمة وباسناد من الاشقاء في التحالف العربي الذي تقوده السعودية بتحالف مشابه لستينيات القرن الماضي وتحالف الجيش والشعب المصري مع اليمنيين وان النصر قادم بإذن الله ولا خيار سواه لليمنيين.