"عصابات" تتحكم بمفاصل لبنان.. موارد بالدولار وجيوش من العاطلين عن العمل

يمكن تسمية كل ما يجري في لبنان اليوم بـ "الجريمة المنظمة" بدءاً من الأداء الرسمي في معالجة الأزمة الاقتصادية الأكبر في تاريخ البلاد، مروراً بحجز المصارف على أموال المودعين اللبنانيين دون وجه حق قانوني، وصولاً الى التعطيل المتعمد لتشكيل حكومة إصلاحية منذ نحو ٩ أشهر، وليس انتهاءً عند كل النتائج الاجتماعية والاقتصادية لهذا الواقع القائم في البلاد منذ نهاية العام ٢٠١٩.

وكلما غابت الدولة وتصدعت مؤسساتها تحت ضغط الانهيار المالي، كلما ضعفت سيادة القانون والمؤسسات الأمنية على البلاد. حتى بات لبنان اليوم في موقع وسطي ما بين الدولة كمفهوم شامل، وبدائلها التي تظهر بأشكال متعددة، حزبية حيناً أو طائفية حيناً آخر، بعضها على شكل مناطقي وبعضها الآخر على شكل تعاضد مصالح مشتركة، لكن الأخطر من هذا كله، أن البلاد التي تسير بشريعة "الجريمة المنظمة" تواجه اليوم سطوة عصاباتها النامية، التي تكاد تمسك بكل مفاصل لبنان.

للتهريب عصاباته، للمخدرات عصاباتها أيضاً، لسرقة المنازل والسيارات والدراجات عصابات تختلف عن تلك التي تمتهن التزوير والاحتيال، للمصارف عصابات وللصرافين عصابات أخرى، للأسواق السوداء وللمحتكرين، للأدوية والمواد الغذائية والمحروقات والخردة، حتى حليب الأطفال له عصاباته في لبنان، لكل جريمة ترتكب في لبنان اليوم عصابة، حتى يكاد يندر الطابع الفردي للجرائم التي تعلن عنها المؤسسات الأمنية في نشراتها الدورية.

هي نتيجة طبيعية ومتوقعة لكل الفوضى التي تسود مجتمعاً يعاني واحدة من أعقد الأزمات المالية وأكثرها حدة وقساوة في تاريخ الاقتصاد العالمي، بحسب وصف البنك الدولي للأزمة اللبنانية. نسب الفقر تتخطى الـ٦٠٪ فيما يقترب الفقر المدقع من عتبة ال٤٠٪ بحسب ما هو متوقع للبنان نهاية ٢٠٢١. لاسيما مع استمرار تدني قيمة الليرة اللبنانية أمام الدولار، التي تخطت عتبة ال١٠ أضعاف هبوطاً، من ١٥٠٠ ليرة قبل نحو عام ونصف إلى ما فوق ال١٥٠٠٠ ليرة اليوم.

هذا الواقع القائم يشكل الأرض الأكثر خصوبة لنشوء وتنامي عصابات الجريمة المنظمة، التي باتت تعلن عن سطوتها وسيادتها عبر أرقام ونسب الجرائم والسرقات والعنف المسجلة في لبنان بالمقارنة مع الفترات نفسها من الأعوام السابقة للأزمة.

فقد استمرت المؤشرات الأمنية بالارتفاع خلال الأشهر الـ 4 الأولى من العام 2021 مقارنة بالفترة ذاتها من العام 2020، بحسب ما أحصته "الدولية للمعلومات" من خلال نشرات القوى الأمن الداخلي، حيث ارتفعت جرائم سرقة السيارات بالمقارنة بين شهري أبريل 2021 و2020 بنسبة كبيرة بلغت 263% وبمعدل 4.6 سيارات يومياً، فيما ارتفعت سرقة السيارات عموماً بنسبة 51% عن الأشهر الأولى من العام الماضي.

جرائم السرقة عموماً ارتفعت بنسبة 268% بين أبريل 2020 و2021، أي بمعدل 5.1 جرائم سرقة يومياً وبمقارنة الأشهر الأولى من العام فإن الارتفاع المسجل لجرائم السرقة بلغ 185%.

الأرقام بحسب الباحث في "الدولية للمعلومات" محمد شمس الدين توضح أن النشاط الجرمي الأكبر في لبنان تقوم به عصابات منظمة وليست ذات طابع فردي، "فالأفراد لا يمكنهم اليوم أن يقوموا بتنفيذ هذا الحجم من السرقات خصوصاً بالنسبة إلى السرقات الكبيرة وسرقات السيارات لاسيما وانها منتشرة بشكل متساو تقريباً على مختلف الأراضي والمناطق اللبنانية وليست مقتصرة على مكان محدد.

ويضيف شمس الدين في حديثه لموقع "الحرة" أن كل المعلومات الأمنية تشير إلى انه يجري تهريب السيارات المسروقة عبر الحدود إلى الخارج، أو يتم فرطها وبيعها كقطع غيار، وهذا ليس عملاً فردياً أو يمكن لأفراد أن يقوموا به وإنما شبكات ومجموعات منظمة ومسلحة.

كلام شمس الدين يتوافق مع ما تؤكده مصادر أمنية لموقع "الحرة"، تشير إلى أن هذه السرقات إن كانت سيارات أو مجوهرات أو منازل وأدوات كهربائية، كلها وغيرها تحتاج إلى أسواق لتصريفها وبيعها، فالسارق ليس مستفيدا مباشراً من سرقته وإنما يقوم بها من أجل مردود مالي، وهنا تظهر العصابات المنظمة التي تعمل على شراء المسروقات وتصريفها وتوزيع عائداتها المالية لتستقطب بها مزيداً من العناصر، ومن هنا فإن الأجهزة الأمنية تعمل بطريقة عكسية عبر مراقبة أسواق المسروقات من أجل الوصول إلى الشبكات بدلاً من ملاحقة الأفراد العاملين لدى العصابات.

جيوش من العاطلين عن العمل

هذه الظاهرة هي نتيجة طبيعية للأزمة الاقتصادية التي يمر بها لبنان، بحسب شمس الدين، والتي تركت جيوشاً من العاطلين عن العمل (38% من اللبنانيين) لا يتأخرون عن أي فعل في هذه الظروف من أجل تأمين الأموال، وبات من الأسهل جداً على عصابات الجريمة المنظمة أن تستقطب العاطلين عن العمل بأعداد كبيرة، وتحولهم إلى محترفين يعملون لصالحها.

ويروي محمد. إ لموقع "الحرة" كيف وجد نفسه عنصراً في شبكة منظمة لتجارة الكبتاغون، "انتهى بي الأمر مدمناً على حبوب الكبتاغون دون أن أملك في نهاية الأمر ثمنها، توجهت للتاجر نفسه الذي كنت اشتري منه طلباً للحبوب بالدين، فما كان منه إلا أن عرض على عملاً معه كبدل عن قيمة المخدرات. في البداية كان يطلب مني نقل طلبيات صغيرة بين قرى وبلدات قريبة في البقاع، ثم وبعد أسابيع قليلة أصبحت عنصراً رسمياً أزور معمل التصنيع قرب بلدة عسال الورد السورية، أوظب شحنات للتهريب، وانقل طلبيات كبيرة داخل لبنان إلى الجنوب وطرابلس وبيروت.

ألقي القبض على محمد خلال تنقله على حاجز للجيش اللبناني وفي جيبه كمية صغيرة من الحبوب، سجن ل٣ أسابيع قبل أن يطلق سراحه بتدخلات. "طيلة تلك الفترة كان يصلني كل ما احتاجه في السجن، من دخان وأكل وشرب وملابس وتوصيات داخل السجن، كانت العصابة تواكبني كما لو كنت في الخارج، منحني هذا الأمر بعض الاطمئنان ولكن سرعان ما أخافني شعور كوني أصبحت مرتهناً لهذه العصابة وأزلامها، خرجت من السجن وهربت."

يعيش محمد اليوم في بيروت، يتوارى عن الأنظار ويخاف من ملاحقة افراد العصابة له، لكونه يعرف أسماء ومواقع ومعلومات، "كل الشبان الذين عملت معهم دخلوا من الباب نفسه، مدمنين يحتاجون إلى مورد يؤمن لهم مخدراتهم، وهذه العصابات هي التي تصنع ما يطلبونه، فيتحولون إلى جنود مطيعين مستعدين لفعل أي شيء مقابل حبوب مجانية وقليل من الأموال الشهرية."

وبحسب المصادر الأمنية، فقد ارتفعت مداخيل وموارد هذه العصابات بفعل الأزمة الاقتصادية، فمعظم أنشطة هذه العصابات تقوم على موارد بالدولار، إن كان لناحية المخدرات او سرقة السيارات او التهريب او التزوير، وبالتالي باتت قادرة على دفع رواتب ومخصصات أعلى واستقطاب افراد أكثر إضافة إلى ارتفاع قدرها على تأمين حاجاتها اللوجستية، وكل ذلك رفع من قدرت هذه العصابات بينما قدرات الدولة الأمنية تتضاءل.

علي. ص مقيم في بيروت، بات بلا عمل منذ مطلع العام ٢٠٢٠، يروي بدوره لموقع "الحرة" كيف جرى استقطابه ليصبح عنصرا في عصابة سرقة سيارات. "كنت أبحث عن عمل بمختلف الطرق وعبر جميع معارفي، إلى أن وصلني عرض محدود مقابل بدل مادي، ويقتصر على نقل سيارة مستأجرة من بيروت إلى البقاع حيث سيتسلمها "زبون" بحسب ما أخبروني، قبلت وفعلتها، وجاءني العرض الثاني والثالث، حينها قررت أن استفسر أكثر عن العمل الذي أقوم به، فإذ بي أعمل في نقل السيارات المسروقة من العاصمة إلى منطقة بعلبك دون علمي."

ورغم ما عرفه علي، تابع العمل مع العصابة التي ضاعفت من نصيبه بعدما بات يعلم ما يعمل به، فكان البدل المادي مغرياً بالنسبة له، لاسيما وأنه ترافق مع تطمينات وأمثلة حول رعايتهم لأفراد عصابتهم حتى وهم في السجون او إذا ما تعرضوا لطارئ او إصابة. "قالوا لي انهم سيعتنون بعائلتي وأهلي وسيتوكلون بتكاليف المحامي او التكاليف الصحية لأي طارئ قد يحصل خلال عملي، كذلك فقد أمنوا لي حماية وحظوة في المنطقة التي أقطن فيها، كل ذلك أنا بحاجته اليوم والأهم انني لا أقوم بفعل السرقة بل مجرد ناقل إن لم أكن أنا سيكون أحد آخر."

عصابات تمتد على كل القطاعات

ليست الأنشطة الإجرامية الكلاسيكية وحدها ما بات لها عصابات منظمة في لبنان، فالتزوير والسلب والسرقة والنشل وقتل والتهريب كلها أنشطة عصابات متوقعة ومعروفة، لكن الفريد في لبنان هو وجود عصابة منظمة لتسير وتحمي كل قطاع على حدا. لسوق الصيرفة عصاباتها المسلحة وحماياتها التي اما تؤمن حماية لمصالحها أو تقوم بعمليات الاحتيال والسلب عبر استدراج المواطنين بعمليات الصيرفة. لمحتكري الأدوية مخازنهم وحماياتهم وعصاباتهم أيضا التي ظهرت مع المداهمات الأمنية والقضائية، لشركات نقل الأموال أيضاً عصابات ومسلحين، ولم يسلم حليب الأطفال من استغلال العصابات التي عملت على احتكار وتهريب والمتاجرة بهذه السلعة التي أصبحت نادرة، يديرون مخازن ويقومون بعمليات تلف تحت جنح الظلام.

حتى قطاع المحروقات لم يسلم من نشاط العصابات من محتكرين وتجار سوق سوداء ومهربين، كذلك محطات البنزين التي باتت تشهد ازدحاما وطوابير انتظار واشكالات، انضمت بدورها أيضاً إلى منظومة العصابات وباتت تعطي مخصصات مالية لعصابات محلية تعمل على حمايتها من المواطنين الغاضبين نتيجة تقنين التوزيع وانقطاع البنزين. وفيها شكل من اشكال الأمن الذاتي الآخذ بالانتشار في ظل انعدام الثقة بالدولة اللبنانية وأجهزتها الأمنية.

ومن الواقع نفسه، تبرز عصابات الخوات والحمايات الفردية والتي تعمل على ابتزاز الناس بأمنهم وأمن مصالحهم مقابل بدلات مادية شهرية مفروضة، وتنتشر هذه الظاهرة بشكل كبير في الأحياء الشعبية الخارجة عن سلطة الدولة في المدن ولاسيما بيروت وضواحيها، وتتركز بشكل خاص في الضاحية الجنوبية لبيروت. هذه العصابات تؤمن حماية للمؤسسات والمحال التجارية من عصابات أخرى تسعى لتنال الخوة نفسها مقابل الحماية والأمن.

أما العصابات الأغرب، فكانت من نصيب عصابات الخردة التي نفذت أغرب أنواع السرقات في لبنان، من اغطية صرف صحي وأسلاك الشبكة الكهربائية وبوابات المنازل والمؤسسات وحديد الكورنيش البحري واشارات السير وأعمدتها، وكل ذلك سعيا خلف الدولار الذي يحكم تجارة المعادن هذه.

الدولة بلا حول ولا قوة

ليس سراً أن الدولة اللبنانية تقف موقف العاجز عن التعامل الفعلي مع هذه الفوضى. وزير داخليتها يؤكد في كل اطلالة إعلامية له على هذا العجز المادي واللوجستي عن مواكبة ومعالجة الفوضى الأمنية المنتشرة على امتداد البلاد، فالأزمة أكبر من الحلول الموضعية التي تتخذها القوى الأمنية في معالجة الأحداث الأمنية بالمفرق وكل حادثة على حدا فيما العمل بالمقابل يدار من عصابات منظمة ومنتشرة بهذا الحجم.

تؤكد المصادر الأمنية أن مختلف التقارير الواردة تثير القلق، لاسيما وأن الحل السياسي المسؤول في النهاية عن الاستقرار الأمني بشكل أساسي يبدو بعيد المنال، مما يفتح الساحة أمام هذه العصابات لتتمكن من الأرض اللبنانية أكثر وتحقق مزيدا من التوسع والاستقطاب في ظل أحوال اقتصادية واجتماعية تحفز بقوة على هذا التفلت.

وتضرب المصادر الأمنية مثلاً بالتطور المخيف للأرقام المتعلقة بنسب الجرائم والسرقات بين شهر وآخر، فما بينته ارقام الاشهر الأربع الأولى من العام جاء الشهر الخامس (مايو) ليظهر تدهوراً أكبر في الحالة الأمنية للبلاد، حيث سجل ارتفاع في كافة نسب الجرائم ازدادت معها نسبة التوقيفات نحو ٣٥٪. 

بدوره سجل الجيش اللبناني خلال الشهر الخامس من العام، توقيف 686 شخصاً من جنسيات مختلفة (وهذا رقم كبير في بلد يقطنه ٦ ملايين نسمة)، لتورّطهم في جرائم متعدّدة منها الإتجار بالمخدرات والقيام بأعمال سرقة وتهريب وحيازة أسلحة وممنوعات، والتجول داخل الأراضي اللبنانية من دون إقامات شرعية، وقيادة سيارات ودرّاجات نارية من دون أوراق قانونية. وقد شملت المضبوطات: 142 سلاحاً حربياً، حوالى 40.000 طلقة من مختلف العيارات، 157 آلية، وحوالى 570 كلغ من حشيشة الكيف، بالإضافة إلى عدد من أجهزة الاتصالات والمراقبة.

ولم تسلم منطقة لبنانية من هذا الارتفاع وكل منطقة حسب اهداف العصابات فيها والقدرة على التحرك، حيث سجلت بيروت حتى شهر مايو اعلى النسب، ومن بعدها قضاء المتن وجونية وبعبدا والشمال اللبناني ثم البقاع والجنوب. الجرائم ارتفعت في جبل لبنان نجو ١١٥٪ وفي الشمال ناهزت ال١٥٠٪ في الجنوب بلغت عتبة ال١٦٠٪ فيما ارتفعت نسب الجرائم في البقاع نحو ٨٠٪ إلا أن أكثر الأرقام المخيفة سجلتها دائرة بيروت الأولى (منطقة الأشرفية ومحيطها) حيث ارتفعت جرائم السرقة فيها إلى حد تجاوز ال١٠٠٠٪، مع ما يمثله هذا الرقم من حالة مرعبة للمواطنين ويذل بوضوح أكبر على كون هذه الجرائم تجري بطريقة منظمة.

الأرقام تشير إلى أن القادم أسوأ

المصادر الأمنية تختم مشيرة إلى أنه وبالرغم من ضعف الإمكانات والمعوقات السياسية والاقتصادية لفرض أمن تام على البلاد، لا يزال لبنان بشقه الأمني يصنف صامداً وليس عرضة للانهيار القريب، مضيفاً أن كافة القطاعات الأمنية تعمل بطاقاتها القصوى بالتعاون مع البلديات والمخابرات ومنظومات الحراسة الخاصة من أجل ضبط عمليات السرقة خصوصاً والجرائم عموماً، لكن الأرقام تشير إلى أن القادم أسوأ لذلك فإن أي أمل معقود على حل جذري للأزمة بدلا من ملاحقة تداعياتها.