علي عبدالله صالح.. الانتظار الذي لا يأتي

عاش الشعب اليمني في لحظة صدمة جراء رحيل الشهيد علي عبدالله صالح، لم يستوعبوا الخبر، لقد وقع عليهم مثل الموت، لم نستوعب الحقيقة إلا متأخراً، ومن قوة الصدمة ما زال الكثير من الناس لم يستوعبوا رحيل صالح، وهؤلاء أكثر الناس من ينتمون لصالح أكثر من المقربين منه، ومع هذا فالزعيم علي عبدالله صالح لا يموت إلا واقفاً، لقد شكل الموت الذي يناسبه، واقفاً مواجهاً ومقبلاً غير مُدبر، ذلك لأن الموت لا يتمكن منه بسهولة.

في صباح الرابع من ديسمبر 2017، استيقظ والدي على غير عادته، استيقظ مجذوباً مرتبكاً على صراخ من كانوا في البيت، والدتي كان صراخها يعلو في المنزل، أخي الصغير يوسف من ذوي الاحتياجات الخاصة كان مدركاً لماذا تصرخ والدتي فصرخ معها وكان جميع من في البيت في حالة ذهول، يقول والدي، ولفني تيار من الطنين وأنا أسمع صراخهم، أنصت لوالدتك وهي تقول قتلوه.. قتلوه.. مات علي عبدالله صالح، فيقف شعر رأسي، أصوات بكاء تتسلل من الغرفة المجاورة، يغرز الحزن أسنانه السوداء في كبدي، ويتخايل لقلبي شبح موت صالح الذي لطالما رفضنا موته ولم نتقبل ذلك، أقوم من فراشي مندفعاً نحو الغرفة، لأواجه الحقيقة، حقيقة استشهاد ضلعنا وضلع اليمن، أجهشت بالبكاء معهم، أرى أخاك جالساً وفي حالة فزع، وأمك مُستندة إلى كتفه، وجاري برفقة أبنائه في هذه الأثناء يناديني يبلغني الخبر، خرجت لمقابلته والجميع يبكون، بعد ساعة من الخبر، تتجسد الكآبة في كل المناظر وصور الحياة.

كان علي عبدالله صالح عصياً على الموت والغياب، وهو حاضر اليوم رغم الغياب بشخصيته المتفردة، وكاريزميته النادرة، عاش قائداً شجاعاً، غير مداهن أو منافق، كان كبيراً بكبر اليمن، عزيزاً كريماً وفياً كما عهدته كل البلاد، ظهر على مسرح التاريخ كأول وآخر زعيم حكم اليمن، وأعطى شعبه حق الاعتزاز بوجوده على هذه الأرض.

جحدوك يا آخر الرؤساء ونسبوا إليك الجوع والفقر المهين، نسجوا عليك قصص وروايات فشلهم التي تعمل على تشتيت انتباهنا، عبر الضخ الإعلامي الكثيف والمزيف والممنهج لإظهار خط إعلامي يخدم جهات وكيانات وأنظمة معينة، ترى مصلحتها في قتل صورة صالح في ذهنية المواطن اليمني، كما تعمل هذه الجهات المدعومة إقليمياً على محاولة تعتيم الواقع المأساوي وربط كل خيوط الفشل بشخص صالح الذي ورغم رحيله ما زال يرى فيه اليمنيون المخلص لهم، غالباً ما تجد من كانوا يتاجرون باسم صالح بلا خجل تواروا عن الأنظار أو ذهبوا للعب دور سيئ، ومعيار الهزيمة عندهم أن لا يعيشوا معززين كما كانوا في عهد الراحل صالح.

دائماً الزعماء والرؤساء الناس مختلفون عليهم، أما الزعيم الشهيد علي عبدالله صالح فمثل الظواهر الطبيعية لحب الناس له، كان زعيما خالصا ومخلصا لثورتي سبتمبر وأكتوبر، ولمكتسبات الجمهورية اليمنية التي لم تشهد الرخاء والأمن والاستقرار إلا في عهده، سخّر جل حياته لخدمة وطنه وأمته، فكان الملهم الأول لطموح الشباب وتطلعاتهم المستقبلية.

إن أزمة اليمن الحقيقية ومشكلتها، تتمحور حول البحث عن القائد الزعيم، الذي ظل مكانه شاغراً رغم الزحام الذي حوله، قائد كان لديه القدرة الكافية على التأثير النافذ في شعبه وعلاقة بلاده الخارجية بمحيطه الإقليمي وهذا كان واضحاً في قدرته على حكم اليمن لـ33 عاماً.

إن الرئيس الراحل علي عبدالله صالح كان تجسيداً لأمته في مرحلة تحول هام، كان وسيبقى لعقود من الزمن الخالد في ذاكرة اليمنيين، وكان الأبرز وسيظل المعنى الأول في تحليل وسائل الإعلام العربية والغربية لأهم شخصية حكمت اليمن وجسدت معاني شجاعة الإنسان اليمني والعربي، كان يقود ثورة توعوية مصاحبة لأهم مراحل حياته ضد الأطماع الخارجية، وحينما كانت رياح المؤامرات تهب عليه كان الرجل يحبط كل مؤامرة في مهدها، ويقلب الطاولة على جميع خصومه المحليين ومن بينهم أطراف عربية كان هدفها إزاحة صالح من الواجهة أو تغييبه بأي شكل من الأشكال.

عاش علي عبدالله صالح فترات طويلة لتحقيق حلمه، وهو أن يأتي ذلك اليوم الذي يرى فيه اليمن قريبا من مصاف الدول المتقدمة، اجتهد الرجل في حلمه وهو يستثمر بكل جهد مع شركاء اليمن من دول العالم في التنمية المستدامة والبنية التحتية والاقتصادية، لكن الإخوان أفشلوا كل هذه المساعي بخوضهم المغامرة إلى النهاية، حاملين معهم حلماً مختلفاً عن حلم علي عبدالله صالح، أن يروا ذات يوم كل منجزات صالح تتحول إلى ركام، وقد تحقق حلمهم وصار اليمن ركاماً.

قصة الإخوان في اليمن شبيهة بقصص الروايات الأكثر غرابة في التاريخ الحديث، حيث يتقمص البطل دوراً فوق قدرته على الفعل فيتحول في منتصف الرواية إلى بطل مأساوي، ثم ما يلبث في آخر النص أن يفقد علاقته مع شخصيات الرواية ويموت وحيداً بلا جنازة تشييع أو مجالس عزاء.

إن رحيل علي عبدالله صالح يعني الكثير بالنسبة لليمن، خاصة أن رحيله جاء في ظرف إقليمي ودولي متغير، فالرجل كان يتوفر داخل كل مراكز ونفوذ الدولة، كان كل البلاد والمدن، كان ذا نفوذ حديدي ناعم، وكان يطبع سلوكه تجاه الحلقة الضيقة المحيطة به بكل اقتدار.

استطاع الشهيد علي عبدالله صالح طيلة ثلاثة عقود أن يصبح رمزاً للجمهورية اليمنية، حتى إن حضوره الطاغي كان يطغى على الجميع، وقد تميز بسرعة نباهته وحدة ذكائه، إذ كان هو نفسه الجبهة، والمقاتل الأول، والمدافع في الأمام والخلف والوسط، والمتمركز في كل مكان، بينما لم يكن الآخرون يظهرون إلا في مناسبات نادرة، مثل الاحتفالات الرسمية وغيرها، ومن ثم يختفون، وهم من يمارسون اليوم الدور الذي كُلفوا بتأديته.

كان علي عبدالله صالح صاحب همة وطنية كبيرة، والخلاف الوحيد حوله هو أنه كان يتحمل المهمة الأكبر على عاتقه، وهو تمثيل الدور الأول للدفاع عن الوطن ومكتسباته، فقد خاض صراعاً طويلاً لتحقيق حلمه بتحقيق الوحدة اليمنية المُباركة في الـ22 من مايو عام 1990، لكن مشكلته الحقيقية لم تكن في تحقيق الوحدة كما يكذب خصومه، بل كانت في تبعية الأحزاب المعارضة لدول إقليمية بعينها، وبالرغم مما كان يبدو على السطح من تناغم بين اليمن وتلك الدول، إلا أن تلك الدول برهنت مرات عديدة على أنها صانع فوضى اللعبة في اليمن، ويمكنها سحبها في أي وقت، وهذا ما حصل على سبيل المثال في العام 2011م حين اقترحت هذه الدول على الوسيط الأممي آنذاك جمال بن عمر خروج صالح من الحكم لإنهاء ملف وجوده على الفور، وما تلى بعده كان متوقعاً، وقتها اختفى الإخوان خلف الستار وبدأوا باستكمال باقي الملفات، لكن رفض صالح للمخطط أو المقترح ومغادرة السلطة بشكل فوضوي، فرض على تلك الدول إعادة تنشيط اللعبة من جديد وبشكل أكبر.

علي عبدالله صالح ليس رمزاً للشجاعة والوفاء والاخلاص فقط، ولا يمكن حصره في هذه الصفات، بل هو زعيم من أهم زعماء العرب في هذا القرن، قائد سياسي عقلاني في زمن انعدمت فيه العقلانية لدى أغلب القادة العرب، وهو رجل صلب الإرادة، صادق الوطنية، قوي العزيمة، وفي تقدير اليمنيين فإن علي عبدالله صالح ليس سيئاً بالقدر الذي صوره به خصومه، لكنه كان متسامحاً جداً بالقدر الذي لا يريده أنصاره أيضاً.

بعد رحيل علي عبدالله صالح، فقد اليمن الكثير من وزنه وثقله الإقليمي، فقد غادره الكثيرون من وجوه الصف الأول، بعد أن تبين لهم أن اليمن بعد صالح ليس سوى واجهة لمشروعين في المنطقة، وأن خيار الحرب في اليمن وراءه سياسة انتقام لتراكمات قديمة، ولذلك على مُسعري شرارة الحرب في اليمن أن يدركوا أن ما يسعون إليه سوف يتبعهم دون أن يحصلوا عليه، لكن الخيار الوحيد لديهم الآن هو الهروب إلى حيث النجاة وتفادي الغرق.

وما دمنا في عهد التمنيات، فكم يتشوق المطالع لو قام راصد حصيف بتوثيق أهم مراحل ومحطات الشهيد علي عبدالله صالح، في خضم هذه الأيام الصعبة التي يمر بها اليمن، وكيف تغير حال البلد بعده وتبدل، ستكون صورة مدهشة ووثيقة صادمة لمن سيأتي بعدنا، لكنها ضرورية لصيانة الوعي وتمتين الذاكرة، في مجتمع بلا ذاكرة قد يسهل خداعه كل مرة.