ملف| مثقفو اليمن بين العواطف الإنسانية وعواصف الحرب (1-2)

يرى رولان بارت أن المهمة الحاسمة للمثقف، وفق رؤيته الواقعية، تهدف إلى المصالحة، وأنسنة الحرب، واحترم العدو، والتحضير لسلام مستدام، وإذابة جميع أشكال الكراهية عوض الانسياق الأعمى وراء النزعات الشوفينية المجنونة، كما يرى ضرورة بقاء المسؤول ملتزماً بالمُثل العليا، وبقيم الحرية والعدالة الاجتماعية وفهم الآخرين، ورفض تعميم الحقائق أو تشويهها،والسعي لمنع الانهيار التام والانتحار الشامل.. وهذا ما عرض حياة بارت للمخاطر وسمعته ونفوذه للتشويه من أجل المثل الإنسانية العليا...

من هنا جاءت فكرة إعداد ملف يكشف عن طبيعة مواقفهم وتصوراتهم عن الحرب، وكيفية النظر إلى نواتجها، توجهنا إليهم وطرحنا عليهم هذا السؤال:
يقف المثقف اليوم بين عواطفه الإنسانية وعواصف الحرب وهو ما يحتم عليه اتخاذ موقف عقلاني والعمل الجاد على تحقيق السلام الكوني وتعميم ثقافة التسامح والحب..
ما الذي يستوجب على المثقف اليوم لإيقاف الحرب والتصدي للقتل اليومي والمجازر الإنسانية؟
كيف يرى المثقفون الحرب.. وماذا خلفت في أعماقهم؟ وماهي خطواتهم القادمة لإطفائها؟

...مدانة على مر العصور

الفنان التشكيلي/ ريان الشيباني
الفنان التشكيلي/ ريان الشيباني
كانت البداية مع الروائي والفنان التشكيلي/ ريان الشيباني، والذي أكد على ضرورة تفكيك الأسباب الكامنة وراء إشعال نيرانها قائلاً: على المثقف أن يسلك سلوكاً اجتماعياً مناهضاً للحرب بمعناها الشمولي. مع ذلك تبقى على كاهله مهمة تفكيك الأسباب التي أشعلتها، من خلال الكلمة والخطاب. وعدم الانحياز للأطراف التي تحاول أن تثبت وجودها وتعتاش من خلال سياسة فرض الأمر الواقع، لا من خلال أساليب وممارسات مشروعة.

وأضاف: الحرب مدانة على مر العصور. ولا يمكن لمثقف أن يتحيز لها على أية حال. ولا يجب أن يأخذ هذا الموقف بشكله الانتهازي، من قبل السلطات أو الجماعات الخارجة على القانون، على أنه انتصار لها. لأن هذا الموقف في أصله، قائم على إدانتهم.
وبلاشك أن الأثر النفسي للحرب لا يمكن إغفاله بالسهولة التي نعتقدها، خاصة عندما تأخذ الحرب هذا الشكل الشامل من التخريب والدمار.

وأشار أن رسالة المثقف بين كل هذه الفوضى، هي التوعية بمخاطر أن تنزلق الأمور إلى مستويات خطيرة من العنف الطائفي والمناطقي، والعمل مع القوى التي تعمل على فرض وجود الدولة خارج هذا الشكل من التحيزات.

نكال مباغت وجحيم أليم

بدوره شخص الشاعر/ صدام الزيدي كارثية الحرب: الحرب وحدها من يلمع في أفقيةٍ للحيرة مصلوبة على أسنّةٍ من بارود.. وبقايا أمل مشفوعة برجاءاتنا ناحية السماء أن تشهد اللحظات الأخيرة- أو ما قبل الانفلاتة الني لا تُقاوم- للتدميغ الفادح تنكيلاً وتشريداً، إطلالة منطق واستفاقة معترك سياسي كان بلغ حداً من السقوط والتناور المتأزم والمتقزم، معاً، والممكنات المعبوءة بأنانية التعاطي وعبثية التصويب المطلبي المندفع!!

الشاعر/ صدام الزيدي
الشاعر/ صدام الزيدي

علاوة على أن الحرب باتت تتجول معنا في دروبنا المنفلتة، داخل صنعاء وفي محيطها، وبعيداً في التخوم المترامية لعقائدية الانجراف الهوسي -الملعون- تكفيراً وتحجيماً وتضليلاً.. لكن علينا أن نتوقع انبثاقةً للضوء، أبداً، إما بلا حربٍ، أو من بعد حربٍ، وتصفياتٍ ذات الشمال وذات الجنوب!
في هذا البلد، مشكلتنا، أنه من سبق إلى "غير مُباحٍ" قال "هذا لي"!!

وقال: لابد للحرب أن تنكبح أجراسها اللعينة.. لأنها إن أطلقتها، مدويةً، أفزعتنا وقتلتنا وشردتنا ونكلت بنا، جميعاً. إنها لحظة فارقة في التاريخ اليمني، لحظة أن يتقي الله فينا وفي البلد كل الساسة ودخلاء السياسة، أيضاً.
الحرب تباغتنا منذ توثيبةٍ في الأمد البعيد القريب.. هي النقيض المشاكس وهي النكال المباغت الذي يصحو في وهلةٍ ولا يغفو هكذا بسهولةٍ ما..

وأضاف: الحربُ وحلٌ قذرٌ جداً.. الحربُ لا ترحم.. الحربُ دمارٌ وغبارٌ وموازين تفقد عقلها لصالح شبقيتها للدم!
لكي ألتمس إجابةً شافيةً، على استفهامٍ يقول: "ما القراءة للوضع الراهن، يمنياً، وما الذي يفعله المثقف لإيقاف الحرب"؟
إذاً: "المثقف" ذاته، ما موقعه الآن في إذكاءِ الحربِ؟ "المثقف" وقد طوعته السياسة القذرة والولاءات النتنة والتمظهرات الموحلة، لتغذية معارك الأوباش والأدعياء وتجار الحروب.. ما الذي يفعله هذا الـ.... "مثقف" برأيك؟!

وتابع: ثمة طابور من المثقفين لا يُسمع لهم في مثل هذه التناورات التي تجذر للقبح الانساني في أبشع أدواته، هؤلاء بُحّت أصواتهم، -أعني المثقف- وبئست حُنجراتهم وليس ثمة من يصغي إلا لنداءات الشيطان ولعلعات الرصاص في هذا الليل المريب!!
المثقف بمقدوره أن يشعل ثورةً لكن ليس بمقدوره، وحده، أن يوقف حرباً.

المثقف الذي يرى أن ليس بوسعه شيء.. واهم

الشاعر/ عبدالواحد عمران
الشاعر/ عبدالواحد عمران
من زاوية أخرى اقتنص الشاعر والناقد/ عبدالواحد عمران رؤية تغوص صوب تفكيك العمق محاولاً كشف أنساق ثقافية تكمن وراء تأجيج نيران الحرب: المثقف الحقيقي، شاعرا أو كاتبا، يملك وعيا عميقا بواقعه وهو منتج الوعي الجمعي وكذلك خالق الأنساق الثقافية في المجتمع حين يتحول هذا المثقف إلى تابع يصبح خصما لكل الآخرين كونهم خصوما لجماعته وتصبح نظرته ضيقة ويبدأ العمل على خلق نسق متعصب وعدائي وهذا حاصل في واقعنا اليوم...

أما حين يظل بعيدا عن كل الجماعات وينتمي للشعب الشعب العامة من الناس حاملا لوعيهم منتجا له فإنه هنا يكون فاعلا فعلا إيجابيا وهذا ما لا نجده اليوم، وهذا المثقف هو القادر على التغيير والمالك للرأي الشجاع.. هذا المثقف هو الذي يدرك أن الحرب ضرورة في الحياة ولكن بشكل يعيد ترتيب الواقع ويجتث الضرر وحين تتجاوز ذلك ينطلق لإيقافها وهكذا كان يصنع الأنبياء والحكماء...
أما المثقف الذي يرى أنه ليس في وسعه شيء فإنه واهم لأنه بظنه ذلك وبصمته يصنع أشياء كثيرة مدمرة وهذا يثبت أنه يستطيع فعل الكثير ولكن السلبي...

بذرة طيبة..

الشاعر/ وثيق البريهي يرى ضرورة أن يصرخ المثقفون في وجه الواقع وأن يجتهدوا بعد توحيد مواقفهم لإيقاف نريف الدم المستمر إذ يقول: الإعلاء من حرية الفرد، التي جعلها العالم مؤخرا أعلى قيمة وأعز مبدأ يسعى إليه، خلق لنا انشراخا حادا وتنوعا أو اختلافا لا حصر له في أي قضية. داخل الأسرة الواحدة، تجد كل شخص له رأي مختلف. في هذا المجتمع، تربى المثقف، منه تشرب ثقافته، اتجاهه السياسي، طريقته في أخذ القرار تجاه القضايا.

الشاعر/ وثيق البريهي
الشاعر/ وثيق البريهي

لذلك، انشرخ الرأي، تعددت الرؤى، انقسم الناس. بعض المثقفين، للأسف الشديد، تقوقعوا في أحزاب سياسية، بعضهم في طوائف دينية. لا يملكون تفكيرا حرا، مستقلا، نابعا من الذات. حيثما توجه سادته، ذهب يشجب، يندد، يؤيد.
بوق، ميكرفون في يد أسياده قادة الحزب والطائفة.

ويضيف: هناك من المثقفين من عميت عليه الأمور، محتار، يشعر بإحباط شديد أمام هذا الوضع. فهو لا يمتلك سوى الكلمة. بينما الواقع يملك البندقية. يشعر بالهزيمة، مسبقا، حين تكون المعركة بين الدبابة، التوحش، الشر بكل صوره من طرف، والكلمة من طرف.

يحدث نفسه: ها أنا أصيح؟ من يسمعني؟ الضجيج غطى على كل شيء.
فلأخرس. فلأخرس إذاً.

لكن الصمت لن يطول، لابد أن نصرخ في وجه هذا الواقع.. لابد أن ترفع راية الإنسانية على أعلى قمة. لابد أن يقف هذا النزيف. فالكلمة التي تدعو إلى السلام بذرة طيبة ستنبت ذات يوم.. وسيرف السلام في دواليها.

أسباب..

أما الشاعر/ عبد المؤمن جبران فقام بسرد أسباب ضعف صوت المثقف وضعف دوره من أجل إخمادها: في ظل الصخب الاعلامي المرافق للحرب من كلا الاطراف المحتربة أصبح صوت المثقف لا يلتفت له لعدة أسباب منها:

الشاعر/ عبد المؤمن جبران
الشاعر/ عبد المؤمن جبران

-عدم وجود ماكنة إعلامية تعبر عن رؤاهم ومواقفهم.
-عدم امتلاكهم أي سلطة لاتخاذ قرار إيقاف الحرب أو المشاركة فيه.
-محاربة السياسي لمواقفهم وتسليط إعلامه لمحاربتهم وتحريض العامة عليهم واتهام كل طرف للمثقف بأنه أجير للطرف اﻵخر.
-عدم وجود جهة تمثلهم في إدارة البلد.
-تشكيك المثقفين أنفسهم في البعض اﻵخر.... الخ. كل هذه الاسباب جعلت من دور المثقف- في ظل الحرب- دورا هامشيا لا يستطيع تغيير أي شيء.. وفي نظري أن دور المثقف يكون ذا جدوى وقادرا على التأثير في ظل الاستقرار لا في ظل الحرب.

هي الحرب، إذاً، اللعنة الماحقة تأتي على كل شيء فتفقده معناه، تأكل الأخضر واليابس كما تأكل الأرض والناس وتجتاح التأريخ والبلاد.. بل هي شر منقلب كما تصورها قصيدة "الحرب" للدكتور الشاعر/ عبدالعزيز المقالح، يقول فيها:

لماذا تأنثتِ الحرب؟
يسألني شاعرٌ ناشئٌ
قلت: إن الإناث ولودات
والحرب ولاّدةٌ
كلما نزلت بلداً تتوالد فيه
الحروب
وتخلع عنه براءتَهُ
ثم تحمله مرغماً
لظلام النهايةْ.
إنها الحرب أفعى
إذا لدغت حجراً يتفتتْ
أو لدغت وطناً يتشتت.
إن خرجت من مخابئها
وأردتم لها أن تعود إلى حيث كانت
تُربي شياطينها وتزيِّنهم،
فافتحوا للسلام الإلهي
أرواحكم
ثم كونوا على رجلٍ واحد
وعلى كلمةٍ واحدة.
هي الحرب أفعى
إذا أنشبتْ في الجبال المنيفةِ
أضراسها تتهاوى،
وتطرح ما حملته على ظهرها
من قرىً وحقولٍ
وما يزرع الصيف
فوق التلال القريبة
من شجرٍ وارف
وخِراف.
أقول لأهلي
لجيران روحي
هي الحرب لا تأمنوها
ولا تأمنوا مَن يشب لظاها
وينشر فوق سطوح المنازل
راياتها
وعلى الحافلات.
ستأكلكم،
تأكلُ الأرضَ والناس
تأكل تاريخكم
والبلاد .
ينهض الشعر
من عثرات الحروب مدمىً حزيناً
يقول لنا:
كنتُ حذّرتُكم ذات يومٍ
ومن قبل حذّرت أجدادكم
إنها الحرب شعواءُ، شنعاءُ
تأكل أولادكم
و»تُحلّي» بأحفادكم.
لم يرق للـ «كبار» ندائي
فعوقبتِ الأرضُ والناس
بالكارثةْ.
إنها الحرب أفعى
وساعةَ تنفث
حُمىّ اشتعالاتها
تتلوّى، تدور
تنام على مأتمٍ
ثم تصحو على مأتمٍ
لا يفرق منجلُها
بين طفلٍ وشيخٍ
ولا بين مئذنةٍ
أو مقامٍ كريمْ.