"الحرس الثوري العراقي"

دخل العراق في نفق "المقاومة"، وهو نفق لن يخرج منه سالما. فقد انتقل النقاش بمستقبل "الحشد الشعبي" في بغداد إلى مستواه اللبناني. الحشد يمكن أن يكون جزءا من المنظومة الدفاعية الرسمية، أما "فصائل المقاومة"، فيجب أن يبقى لها هامش تحرك مستقل. ويترافق النقاش مع مزاج تخويني يستهدف كل من يتحفظ على هذه المعادلة. والمزاج التخويني هذا، استمد عباراته من نظيره اللبناني. "إنهم متخاذلون وعملاء لإسرائيل وأميركا"، وهم "مخبرون لدى السفارة الأميركية".

اللبنانيون ألفوا هذه اللغة، وصارت جزءا من قاموسهم اليومي. العراق اليوم يمضي في هذا الاتجاه. "عملاء السفارة" عبارة تذكر بـ"شيعة السفارة"، والساسة المعممون يزودون "يساريين" ملتحقين بمذاهبهم بمقالات التخوين ومقولاته.

دخول العراق في هذا النفق سيعني نهاية فكرة الدولة

إنها "المقاومة" أيها العراقيون! في لبنان ثمة من اجترح عقدة مزارع شبعا ليتفوق سلاح "المقاومة" على سلاح الدولة، وليتدفق هذا السلاح إلى بيروت وإلى المجلس النيابي وإلى الحكومة، ولاحقا إلى الشوارع والبيوت على نحو ما جرى في 7 مايو من العام 2008. ولاحقا أصبحنا جزءا من ثقافة "المقاومة" وصار اقتصادنا اقتصادها، ومناهج تعليمنا تقترب تصوراتها عن الفن والتاريخ والأذواق. وعلى نحو ما هي مزارع شبعا قميص عثمان "المقاومة" في لبنان، في العراق قواعد أميركية في الوسط والغرب وقاعدة تركية في الشمال، وهذا يستدعي وجود "مقاومة"، وهذه بداية طريق طويل للاستيلاء الكامل على الدولة وعلى الاقتصاد وعلى القرار".

الطريق بدأها العراق. الحكومة مربكة حيال المعادلة الجديدة التي يريدها قاسم سليماني. صيغة الحشد وتركيبته لا تناسب طهران، فهي تريد فصائل كاملة الولاء، ولا يجري نقاش حول مستقبل علاقتها بالجيش وبالأجهزة العسكرية الرسمية. الحشد تم تأسيسه بفتوى من السيستاني وتم تشريعه بقانون من مجلس النواب. "المقاومة" يجب أن تكون خارج أشكال الضبط هذه. المطلوب منها أن تقاتل في سوريا مثلا، أو أن تكون جزءا من منظومة التصدي لحرب محتملة على طهران. هذه المهام قد تعيقها فتاوى مراجع النجف، ومن غير الملائم لها أن تنضبط بقانون صادر عن مجلس النواب. إنها عملية نسخ حرفي للتجربة اللبنانية. "المقاومة" بند عابر في البيانات الوزارية اللبنانية، إلا أنه أقوى البنود! لا قدرة لأحد أن يطمح لضبط "المقاومة" في قواعد السلوك الرسمي. إنها "المقاومة"، قضية أسمى من إخضاعها لإرادة الناخب ولحسابات ممثليه الدنيوية. وعلى هذا النحو تم حفر مسارٍ أفضى إلى أن "المقاومة" كل شيء. أصبحت الاقتصاد والدفاع والأمن والسياحة، ومؤخرا صارت نموذجاً يُحتذى، فانقضت الكنيسة المارونية على فرقة "مشروع ليلى" مشحونة بطاقة مستجدة على "مقاومة" المسيئين للمسيح.

استتباع شيعة العراق أشق وأصعب على الإيرانيين من استتباع شيعة لبنان

العراق شرع بالدخول في النفق، وتتوفر فيه شروط لم تكن متوفرة في النموذج اللبناني حين شرع بحفر نفقه الخاص. لدينا في العراق النجف التي وإن لم تكن منسجمة مع قم في مسارات الفتوى والاجتهاد، إلا أنها غير بعيدة عنها في خيارات الهوية العصبية. ثم أن الركيزة المذهبية لـ"المزاج المقاوم" أوسع في العراق منه لبنان. هذا من جهة، لكن من جهة أخرى في العراق اليوم من يقاوم "المقاومة". طبقات الولاء والافتراق العراقية عن طهران مختلفة عنها في لبنان. استتباع شيعة العراق أشق وأصعب على الإيرانيين من استتباع شيعة لبنان. واليوم مازال نقاش الفصل بين "المقاومة" والحشد مقتصر على هوامش القوى الكبرى. في الحكومة ثمة من يقاوم وكتل كبرى في المجلس النيابي لعل أبرزها الكتلة الصدرية.

المسار طويل ونفس قاسم سليماني طويل، فهو لم يقضم الكعكة اللبنانية بضربة واحدة، وحزب الله كان استثمارا طويل الأجل، وهو أثمر وأثبت نجاحه في إلحاق لبنان بالكامل في منظومة الحرب الإيرانية.

صيغة الحشد وتركيبته لا تناسب طهران، فهي تريد فصائل كاملة الولاء

حين يستمع المرء لقائد "العصائب" قيس الخزعلي وهو يميز بين الحشد وبين المقاومة، يلوح له نائب الأمين العام لحزب الله نعيم قاسم (ربما للعمامة البيضاء هنا تأثير) وهو يشرح للبنانيين عن قوة بلدهم الناجمة عن الثلاثية العبقرية المتمثلة بـ"شعب جيش مقاومة". الخزعلي قال إن الفارق بين الحشد وبين "المقاومة" هو أن الأخيرة قاتلت في سوريا، بينما الحشد لم يقاتل. مقاومتنا أيضا فعلتها، وهي غير مدرجة على لوائح النقاش والتداول الرسمي. أين يسأل اللبنانيون هذه "المقاومة" عن توجهها للقتال في سوريا؟ في مجلس الوزراء؟ المقاومة بند غير مقيد بشروط في البيانات الوزارية! في المجلس النيابي؟ لا قيمة عملية لأي سؤال فيه حول الأدوار الأخرى لـ"مقاومة".

دخول العراق في هذا النفق سيعني نهاية فكرة الدولة، وانخراط في نموذج "الحرس ـ الجيش" الذي أسس له نظام ولاية الفقيه منذ قيام الجمهورية الإسلامية. الغلبة دائما للحرس ولقادته، فيما ضباط الجيش وجنرالاته أشبه بقادة فرقٍ كشفية لا تستحق أن يستعرضها المرشد.

*الحرة